صفحة 176
وقع الكلام بين الأعلام في أنّه هل يمكن أن تكون بعض السور أو الآيات أفضل من غيرها؟ وإذا أمكن ذلك فما هو معنى التفضيل فيها؟ذهب أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني وابن حبّان إلى المنع؛ لأنّ الجميع كلام الله ولئلاّ يُوهم التفضيلُ نقصَ المفضّل عليه... وذهب آخرون إلى التفضيل لظواهر الأحاديث، منهم القرطبي ونقله عن جماعة من العلماء والمتكلّمين ومنهم الغزالي.
قال الغزالي في جواهر القرآن: «لعلّك أن تقول: قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكلام كلام الله فكيف يفارق بعضها بعضاً؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم أنّ نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة «تبّت»، وترتاع على اعتقاد الفرق نفسك الخوّارة المستغرقة بالتقليد، تقلّد صاحب الرسالة صلى الله عليه (وآله) وسلّم، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال: يس قلب القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سور القرآن، وآية الكرسي سيّدة آي القرآن، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن. والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى» (1).
نعم اختلف القائلون بالتفضيل «فذهب قوم منهم إلى أنّ المراد هو الأفضليّة في الثواب والأجر: أنّ الله جعل قراءتها كقراءة أضعافها ممّا سواها، وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها، وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ هذا المقدار لا يظهر لنا، كما يقال إنّ يوماً أفضل من يوم وشهراً أفضل من
ــــــــــ
(1) نقلاً عن الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق: ج4 ص136.
صفحة 177
شهر، بمعنى: العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره، والذنب فيه أعظم منه في غيره، وكما يُقال: إنّ الحرم أفضل من الحلّ لأنّه يتأدّى فيه المناسك ما لا يتأدّى في غيره، والصلاة فيه تكون كصلاة مضاعفة ممّا تُقام في غيره.فيكون معنى (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن) أنّ الله لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب ما يعطي لقارئ أمّ القرآن، إذ الله سبحانه وتعالى فضّل هذه الأمّة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر ممّا أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه، فيكون المراد من قوله (أعظم سورة) أي: في الأجر، لا أنّ بعض القرآن أفضل من بعض» (1).
إلاّ أنّ هذا البيان لا يمكن قبوله لأنّه مخالف لظواهر كثير من الروايات السابقة التي عبّرت أنّ سورة الفاتحة مثلاً مختصّة بالخاتم صلى الله عليه وآله وأنّها أُنزلت من كنزٍ تحت العرش، وغيرهما من الألسنة التي أُشير إليها في ما مرّ.
لذا اختار المحقّقون من الفريقين أنّ جهة التفضيل إنّما هي في المحتوى والمضمون الذي اشتملت عليه هذه الآيات والسور. فإنّ تلك الآيات التي تشتمل على معارف التوحيد وبيان أسمائه وصفاته كآية الكرسي (البقرة: 255)، وآية (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) (آل عمران: 18)، وآية (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) (آل عمران: 26) ونحوها تفوق الآيات التي لا تحتوي مثل هذه الحقائق، بمعنى أنّ ما تخبر عنه أسنى وأجلّ قدراً؛ لذا تقدّم عن الإمام الرضا عليه السلام: «لأنّه ليس شيء في القرآن والكلام جُمع فيه جوامع الخير والحكمة ما جُمع في سورة الحمد» (2).
ــــــــــ
(1) الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق: ج4 ص136، مع تصرّف.
( 2) عيون أخبار الرضا، مصدر سابق: ج2 ص114، باب 34.
صفحة 178
وهذا ما أكّدته الرواية الواردة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله: «لمّا أراد الله عزّ وجلّ أن ينزل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وشهد الله، و(قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ)، إلى قوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ) تعلّقن بالعرش وليس بينهنّ وبين الله حجاب» (1) حيث نجد أنّه عبّر عن هذه الآيات بأنّه ليس بينهن وبين الله حجاب، لذا كان الخطاب بينهنّ وبينه تعالى بلا واسطة.قال الرازي في ذيل آية الكرسي: «واعلم أنّ الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم. فكلّما كان المذكور والمعلوم أشرف، كان الذِّكر والعلم أشرف، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعالٍ عن أن يقال: إنّه أشرف من غيره، لأنّ ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة وهو مقدّس عن مجانسة ما سواه. فلهذا السبب كلّ كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف، ولمّا كانت هذه الآية كذلك، لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات» (2).
وقال الطباطبائي في تفسيره: «وتسمية هذه الآية بآية الكرسي ممّا قد اشتهر في صدر الإسلام حتّى في زمان حياة النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى في لسانه كما تفيده الروايات المنقولة عنه صلى الله عليه وآله وعن أئمّة أهل البيت عليهم السلام وعن الصحابة، وليس إلاّ للاعتناء التامّ بها وتعظيم أمرها، وليس إلاّ لشرافة ما تدلّ عليه من المعنى ودقّته ولطفه، وهو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ومعنى القيوميّة المطلقة التي ترجع إليها
ــــــــــ
(1) تفسير نور الثقلين، المحدّث الجليل العلاّمة الخبير الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي ، مؤسّسة إسماعيليّان، قم، الطبعة الرابعة، سنة الطبع: 1415هـ: ج1 ص3.
(2) التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي الشافعي، منشورات محمّد علي بيضون لنشر كتب السنّة والجماعة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى: 1421هـ: ج7 ص4.
صفحة 179
جميع الأسماء الحسنى ما عدا أسماء الذات» (1).والحاصل أنّ القرآن الكريم وإن كان جميعه كلام الله سبحانه إلاّ أنّ ذلك لا يتنافى مع أن يكون بعض أجزاء هذا الكلام أشرف وأعلى قدراً من بعضه الآخر؛ لما يشتمل عليه من المعارف والحقائق العالية التي من تخلّق وتحقّق بها يصل إلى أعلى مراتب الكمال والقُرب الإلهي. ومن الواضح أنّ سورة الحمد تمثِّل ذروة مثل هذه الآيات؛ لاشتمالها على جميع المعارف القرآنية على إيجازها واختصارها.
من هنا نقف على معنى الروايات التي قالت إنّ إبليس رنّ (والرنّة: الصيحة الحزينة) عند نزول هذه السورة المباركة.
- عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّ إبليس رنَّ أربع رنّات، أولاهنّ يوم لُعن، وحين هبط إلى الأرض، وحين بُعث محمّد صلى الله عليه وآله على فترة من الرُّسل، وحين أُنزلت أمّ الكتاب: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)» (2).
- وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وأبو سعيد بن الأعرابي في معجمه والطبراني في الأوسط من طريق مجاهد عن أبي هريرة: «أنّ إبليس رنّ حين أُنزلت فاتحة الكتاب» (3).