صفحة 69 قاعدة
الجري والانطباق
أنحاء المصاديق للآيات القرآنيّة.
النحو الأوّل: صلاحيّة النصّ القرآني للشمول لكلّ مصداقٍ
تتوفّر فيه ضوابط الانطباق.
النحو الثاني: انطباق الآيات الأفاقيّة على الآيات الأنفسيّة.
النحو الثالث: انطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذِّكر والحضور. قاعدة الجري والانطباق من القواعد الأساسيّه التي اعتمدتها الروايات الواردة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام في بيان المراد من الآيات القرآنيّة أنّ لها إتّساعاً من حيث انطباقها على المصاديق وبيان حالها، فالآية لا تختصّ بمورد نزولها، بل تجري في كلّ مورد يتّحد مع مورد النزول ملاكاً، كالأمثال فإنّها لا تختصّ بمواردها الأُوَل؛ بل تتعدّاها إلى ما يناسبها، وهذا المعنى هو المصطلح عليه بجرْي القرآن.
والجريْ اصطلاح يريد به أئمّة اهل البيت عليهم السلام تطبيق الآية على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد وإن كان خارجاً عن مورد النزول، والاعتبار يساعده، فإنّ القرآن نُزّل هدىً للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخُلُق وواجب العمل، وما بيّنه من المعارف النظريّة حقائق لا تختصّ بحال دون حال، ولا زمان دون زمان، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرّعه من حكم عمليّ، لا يتقيّد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر؛ لعموم التشريع.
وما ورد في شأن النزول ـ وهو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة ـ لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها، لأنّ البيان عامّ والتعليل مطلق، فإنّ المدح النازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النازل في حقّ آخرين معلّلاً بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخرين بعدهم وهكذا.
والشواهد التي أكّدت أهمّية هذه الحقيقة القرآنيّة كثيرة، حيث بيّنت أنّ النصّ القرآني يبقى حيّاً يتنفّس في كلّ عصر، وذلك من خلال ظهوره المكثّف
صفحة 72 في أكثر من مصداق، فالآية لا تموت أبداً ومصاديقها لا تنتهي مطلقاً.
- روى العياشي عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري ما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا» (1).
- وعن خيثمة قال: قال الإمام الباقر عليه السلام: «ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض، ولكلّ قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شرّ» (2).
- عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام عن هذه الرواية: «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهرٌ وبطن، وما فيها حرف إلاّ وله حدّ، ولكلّ حدّ مطلع» ما يعني بقوله: ظهرٌ وبطن ؟
قال عليه السلام: «ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعدُ، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلّما جاء منه شيء وقع» (3).
- وروى الكليني عن أبي بصير أنّه قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)؟
فقال عليه السلام: رسول الله صلّى الله عليه وآله المنذر وعليّ الهادي. يا أبا محمّد هل من هادٍ اليوم ؟
قلت: بلى، جعلت فداك، ما زال منكم هادٍ بعد هادٍ حتّى دفعت اليك .
ــــــــــ
(1) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: الباب 20 (أنه نزل فيه صلوات الله عليه الذكر والنور والهدى)، الحديث 21، ج 35 ص 404.
(2) تفسير العياشي، تأليف: الشيخ أبي النضر محمّد بن مسعود العياشي، المتوفّى نحو 320هـ، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، قم: ج1 ص85 .
(3) المصدر السابق: ج1 ص86 .
صفحة 73 فقال: رحمك الله يا أبا محمّد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى» (1).
إنّ هذه الروايات وغيرها تؤكّد لنا حقيقة قرآنيّة قد أسّستها المضامين القرآنيّة العالية، وهي أنّ القرآن بسوره وآياته وكلماته غير مقيّد بزمن دون آخر، فدائرة الانطباق غير مغلقة على مصداق معيّن، وإن كان من الممكن أن يكون المصداق الأوّل هو البارز إمّا لحكمة قرآنيّة أو نتيجة الاستئناس به، فيحصل بذلك نوع من التبادر الذي لا يفي بإغلاق دائرة الانطباق على موارد ومصاديق أخرى.
ومن هنا تتّضح لنا مقاصد أخرى من قول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله في وصف القرآن: «فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم» (2)، وقول الإمام الصادق عليه السلام: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه» (3).
إنّ الحقيقة القرآنيّة التي تؤسّسها المضامين القرآنيّة العالية والتى تؤكّدها السُنّة الشريفة وهي ـ كما أشرنا ـ استمرار دائرة الانطباق في كلّ عصر وزمان، هي بمعنى أنّ المصاديق البارزة للنصّ القرآني لا تغلق دائرة الانطباق وأنّ المصاديق اللاحقة لا تدخل من باب المجاز وإنّما هي مصاديق حقيقيّة فعليّة.
بهذا المعنى نقرّب صورة الانطباق المستمرّ وعدم انغلاق الدائرة المصداقيّة
ــــــــــ
(1) الأصول من الكافي: كتاب الحجّة، باب أنّ الأئمّة هم الهداة، الحديث 3، ج 1 ص192.
(2) سنن الدارمي، عبد الله بن بهرام الدارمي، نشر مطبعة الاعتدال، دمشق: ج2 ص435؛ مستدرك الوسائل، للمحقّق النوري الطبرسي، نشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1408هـ : ج4 ص239.
(3) الأصول من الكافي: كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، الحديث 9، ج1ص6.
صفحة 74 وإن تفاوتت درجات المنطبق عليه.
وعليه فإنّ القرآن الكريم ما دام قد جاء هادياً للإنسان مُعرِّفاً بحقيقته راسماً له طريقي الهداية والضلال مبيِّناً له كلّ ذلك، وماله وما عليه،... إلخ، ما دام الأمر كذلك فهو بنفس هذه البيانيّة يكون قد حكى أحوال السابقين وأحوال اللاحقين، وكلٌّ بحسبه.
فيظهر ممّا تقدّم ووفقاً للمنهجة القرآنيّة: أنّ الإنسان في كلّ آن ومكان مقصود في الخطابات القرآنيّة الواصلة إليه، وما دام كذلك فإنّه لابدّ أن يكون مصداقاً داخلاً في حريم جملة من النصوص القرآنيّة، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان: 3)، وبذلك يتعيّن علينا أن نقرأ القرآن بصورة جادّة على نحو التنزيل الفعلي على كلّ واحد منّا ليرى موضعه ومرتبته.
إنّ عدم انحصار دائرة الانطباق في كلّ سورة وآية وكلمة هو الحقيقة القرآنيّة الراسخة التي لا ينبغي التنصّل عنها أبداً، ولعلّ هذه الانطباقيّة المفتوحة هي المشار إليها بقول أمير المؤمنين عليه السلام: «وإنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تنكشف الظلمات إلاّ به» (1).
وغير خفيّ على المطّلع أنّ عدم انحصار دائرة الانطباق في النصّ القرآني زمانيّاً، ينسجم تماماً مع دعوى كون النصّ القرآني مأخوذاً بنحو القضيّة الحقيقيّة لا الخارجيّة أو الشخصيّة.
ولا يخفى على المتخصّص أيضاً انطباق ذلك تماماً مع القاعدة الأصوليّة القائلة بأنّ خصوص المورد لا يخصّص الوارد، وإلاّ للزم صدور أحكام ـ في مجال الشريعة ـ بعدد الحوادث الواقعة من كلّ فرد فرد لا بحسب الوقائع
ــــــــــ
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، نشر دار إحياء الكتب العربيّة: ج1 ص288.
صفحة 75 المفترضة ابتداءً في عالم الثبوت.
فأخذ النصّ الشرعي بنحو القضيّة الحقيقيّة ومفاد القاعدة الأصوليّة يؤكّدان الموقف القرآني في قضيّة مخاطبيّته الشاملة لكلّ إنسان في كلّ زمان ومكان.
فالذي يبذل جهده وماله في حرب أولياء الله الصالحين يأتيه الخطاب القرآني بنحو الحقيقة لا المجاز، بقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (المسد: 1)، والذي يبذل علمه ونتاجه الفكري في لوي عنق النصوص الشرعيّة الثابتة باتّجاهات أخرى يحيد بها عن الحقّ إمّا لطمع بمال أو بجاه أو بمقام دنيويّ أو لخوف على ذلك، أو لمرض انطوى عليه قلبه، فهو ممّن يُخاطب بقوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (النساء: 46)، وغداً يقال عنه: هذا الذي نزل فيه (يُحَرِّفُونَ ...).
والذي يؤمن بدعوة الحقّ ويسير في ركب أولياء الله سبحانه ويطرد الشكّ عن حريم القلب، يُخاطب بقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الانشراح: 1 ـ 4).
فيكون انشراح صدره دالاًّ على إيمانه، ووضع الوزر عنه دالاًّ على ارتفاع الشكّ عن قلبه، وهكذا...
وبهذا يتّضح معنى الروايات التي تحدّثت عن أنّ ربع القرآن أو ثلثه نزل فيهم، وكذا ما يوازي ذلك نزل في عدوّهم:
- عن أبي الجارود قال: «سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول: نزل القرآن على أربعة أرباع: رُبع فينا، وربع في عدوّنا، وربع فرائض وأحكام، وربع سنن وأمثال، ولنا كرائم القرآن» (1).
ــــــــــ
(1) تفسير العياشي، مصدر سابق: ج1 ص84 .
صفحة 76 - وفي لفظ آخر عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «نزل القرآن أثلاثاً: ثلثٌ فينا وفي عدوّنا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام» (1).
فليس المراد بذلك هو تسميتهم بأسمائهم الخاصّة أو ذكر أسماء أعدائهم
ـ كما فهم البعض ـ وإنّما المقصود تطبيق الآيات عليهم وأنّهم هم الموصوفون والمنعوتون بها، كما في جملة من النصوص، منها:
- عن محمّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «يا محمّد إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمّة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممّن مضى فهو عدوّنا» (2).
- وعن ابن مسكان قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن» (3)؛ أي من لم يعرف موقع الإمامة والولاية على الوصف الذي جاء في القرآن ـ المنطبق عليهم بالذات دون سواهم ـ لا يمكنه التخلّص من مضلاّت الفتن، لأنّهم العروة الوثقى والحبل الممدود ما بين السماء والأرض وسفن النجاة والسبيل إليه تعالى.
وهذا المعنى هو المراد من قولهم عليهم السلام: «لو قد قُرئ القرآن كما أُنزل لألفيتَنا فيه مسمّين» (4).
حيث إنّ المقصود من التسمية هو الوصف والنعت، لذا ورد عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «سمّوهم ـ يعني عترة النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ
ــــــــــ
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر نفسه: ج1 ص89 .
(3) المصدر نفسه: ج1 ص88 .
(4) المصدر نفسه: ج1 ص99 .
صفحة 77 بأحسن أمثال القرآن، هذا عذبٌ فرات فاشربوه، وهذا ملحٌ أجاج فاجتنبوا» (1).
ثمّ إنّ المصاديق التي ذكرت في النصوص الروائيّة للآيات القرآنيّة على أنحاء متعدّدة:
النحو الأوّل: وهو صلاحيّة النصّ للشمول لكلّ مصداق تتوفّر فيه ضوابط الانطباق، سواء كانت في عصر النصّ أم بعد ذلك، فيكون ما ورد في سبب النزول بيان المصداق، لا الحصر، وهذا ما نجده واضحاً في ما ورد من قِبل أئمّة أهل البيت عليهم السلام في موارد كثيرة، نكتفي بذكر بعض الشواهد منها:
- في الكافي «عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) قال: نزلت في رحم آل محمّد صلّى الله عليه وآله، وقد تكون في قرابتك .
ثمّ قال عليه السلام: فلا تكونن ممّن يقول للشيء إنّه في شيء واحد» (2).
- وكذلك ما ورد في ذيل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43) فقد ذكر جملة من المفسّرين بأنّ المراد من «أهل الذِّكر» هم أهل الكتاب، وذلك لأنّ الخطاب في الآية ـ على ما يفيده السياق حيث جاء في الآية اللاحقة (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ) حيث إنّ البيّنات والزبر هي الكتب السماويّة
ــــــــــ
(1) المصدر نفسه: ج1 ص90 .
(2) الأصول من الكافي، مصدر سابق: كتاب الإيمان والكفر، باب صلة الرحم، الحديث 28، ج2 ص156.
صفحة 78 السابقة على القرآن ـ للمشركين الذين كانوا يصدّقون اليهود والنصارى في ما كانوا يخبرون به من كتبهم، ولذا أُمروا أن يسألوا أهل الذِّكر ـ وهم أهل الكتب السماويّة ـ هل بعث الله للرسالة رجالاً من البشر يوحي إليهم؟ ومن المعلوم أنّ المشركين لمّا كانوا لا يقبلون من النبيّ صلّى الله عليه وآله لم يكن معنىً لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن، لأنّهم لم يكونوا يقرّون للقرآن أنّه ذكرٌ من الله، فتعيّن أن يكون المسؤول عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب وخاصّة اليهود.
وأمّا إذا أخذ قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في نفسه مع قطع النظر عن المورد، ومن شأن القرآن ذلك ـ ومن المعلوم أنّ المورد لا يخصّص الوارد ـ كان القول عامّاً من حيث السائل والمسؤول والمسؤول عنه. فالسائل كلّ من يمكن أن يجهل شيئاً من المعارف الدينيّة، والمسؤول عنه جميع هذه المعارف، وأمّا المسؤول فإنّه وإن كان بحسب المفهوم قابلاً للصدق والانطباق ـ في واقعنا المعاصر ـ على المرجعيّات الدينيّة بعنوانها العامّ، إلاّ أنّ هناك مصاديق تعدّ أوضح من غيرها، وهذا ما نجده في النصوص التي طبّقت ذلك على خصوص أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
- في الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن كثير قال: «قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: الذِّكر محمّد ونحن أهله المسؤولون» (1).
- وفي تفسير البرهان عن البرقي بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: «قال جلّ ذكره: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال: الكتاب، الذِّكر، وأهله آل محمّد عليهم السلام، أمر
ــــــــــ
(1) الأصول من الكافي: كتاب الحجّة، باب أنّ أهل الذكر... الحديث2، ج1 ص210.
صفحة 79 الله بسؤالهم ولم يؤمر بسؤال الجهّال، وسمّى الله عزّ وجلّ القرآن ذكراً، فقال تبارك وتعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44) وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف: 44)» (1).
النحو الثاني: وهو انطباق الآيات الآفاقيّة على الآيات الأنفسيّة ـ في كثير من الأحيان ـ من قبيل انطباق آيات الجهاد على جهاد النفس.
ولعلّ من أوضح مصاديق هذا الانطباق ما ورد في قوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) (النساء: 100)، فقد ذكر المفسِّرون أنّ المراد من المهاجرة إلى الله ورسوله هي الهجرة إلى دار الإسلام لتقوية الحقّ ونصرة دين الله ورسوله الكريم، وأنّ المراد من الموت هو الموت الطبيعي الذي هو مآل ومصير كلّ إنسان في هذه النشأة؛ لقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (الزمر: 30).
- عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: «من مات في سبيل الله فهو ضامن على الله أن يدخله الجنّة لقوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)» (2).
إلاّ أنّ هذا التطبيق الآفاقي للآية لا يتنافى مع تطبيق آخر لها هو الأنفسي،
ــــــــــ
(1) البرهان في تفسير القرآن، العلاّمة المحدّث السيد البحراني، حققه وعلّق عليه لجنة من العلماء المحققين والأخصّائيين، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1419 هـ : ج4 ص451.
(2) غريب الحديث، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، 1405 هـ ، الطبعة الأولى: ج2 ص19؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات المبارك ابن محمد الجرزي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ : ج3 ص102.
صفحة 80 بمعنى أن يهاجر الإنسان ويخرج عن ذلّ ما توطّن فيه من الصفات الذميمة ويبعد عن المعاصي، وأن لا يشغل قلبه بشيء سوى الله تعالى.
قال الراغب في «المفردات»: «الهجْر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إمّا بالبدن أو باللسان أو بالقلب. قال تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) كناية عن عدم قُربهن، وقوله تعالى: (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) فهذا هجر بالقلب أو بالقلب واللسان، وقوله: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ) فالظاهر منه الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان كمَن هاجر من مكّة إلى المدينة، وقيل مقتضى ذلك هجران الشهوات والأخلاق الذميمة والخطايا وتركها ورفضها» (1).
وبهذه الهجرة يرتقي الإنسان إلى القُرب الإلهي، فيصل إلى منتهى السعادة الحقيقيّة بصفاء القلب وتزكيته والعروج إليه جلّت عظمته.
وهذا يثبت أنّ للهجرة تطبيقات ومصاديق مختلفة تنشأ من علوّ الهمّة التي هي تختلف باختلاف الأشخاص ومراتب الإيمان ودرجات اليقين، كهجرة الأخيار والأبرار والمقرّبين. والجامع بينها جميعاً هو الرحيل من علم اليقين إلى عين اليقين ومنه إلى حقّ اليقين، أو من المعرفة إلى الشهود ومنه إلى المعاينة، فمن هاجر من هذه المواطن قاصداً بهجرته الوصول إلى حضرة المحبوب بنيل رضاه، فقد بلغ أقصى مراتب السعادة وأشرف منازل الكرامة.
ثمّ إنّه كما أنّ للهجرة مصاديق معنويّة مضافاً إلى المصداق المادّي، فإنّ الموت أيضاً ينقسم إلى الموت الطبيعي والموت الإرادي الاختياري، الذي يحصل من خلال الإعراض عن متاع الدُّنيا وطيّباتها والامتناع عن مقتضيات النفس ولذّاتها وعدم اتّباع الهوى، فإنّه قد ينكشف له ما ينكشف للإنسان عند
ــــــــــ
(1) المفردات في غريب القرآن: مادّة «هجر».
صفحة 81 الموت الطبيعي.
النحو الثالث: انطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذِّكر والحضور في تقصيرهم ومساهلتهم في ذكر الله تعالى، وهذا نحو آخر أدقّ ممّا تقدّمه.
توضيح ذلك: إنّه يمكن أن يتصوّر للذنب مراتب ودرجات مختلفة:
الأُولى: مرتبة الذنب المتعلِّق بالأمر والنهي المولويّين، وهو المخالفة لحكم شرعيّ فرعيّ أو أصليّ، وإن عمّمت التعبير قلت: مخالفة مادّة من المواد القانونيّة دينيّة كانت أو غير دينيّة.
وهذا هو المعروف والمركوز في أذهاننا معاشر المسلمين أيضاً من معنى الذنب والألفاظ التي تقاربه في المعنى كالسيّئة والمعصية والإثم والخطيئة والحوب والفسق ونحوها.
الثانية: إنّ الأحكام العمليّة إذا عمل بها وروقبت وتحفّظ عليها، ساقت المجتمع إلى أخلاق وأوصاف مناسبة لها ملائمة لمقاصد المجتمع التي هي غاية اجتماعهم، وهذه الأخلاق هي التي يسمّيها المجتمع بالفضائل الإنسانيّة ويحرص عليها، وتقابلها الرذائل، وهي وإن كانت مختلفة باختلاف السنن والمقاصد في المجتمعات، إلاّ أنّ أصل إنتاج الأحكام الاجتماعيّة لها ممّا لا سبيل إلى إنكاره.
ومن الواضح أنّه يمكن أن تتصوّر في مواردها أوامر عقليّة متعلّقة بالأخلاق الفاضلة كالشجاعة والعفّة والعدالة، ونواهٍ عقليّة تردع عن الأخلاق الرذيلة كالجبن والتهوّر والظلم، وكذا يتصوّر لها عقاب وثواب يسمّيان بالعقاب والثواب العقليّين كالمدح والذمّ.
وبهذا تبيّن أنّ هناك مرتبة من الذنب فوق المرتبة السابقة، وهي مرتبة التخلّف عن الأحكام الخلقيّة والأوامر المتعلّقة بها.
صفحة 82 الثالثة: الأحكام الناشئة في ظرفي الحبّ والبغض، فترى عينُ البغض
ـ وخاصّة في حال الغضب ـ عامّة الأعمال الحسنة سيّئة مذمومة، ويرى المحبّ ـ إذا تاه في الغرام واستغرق في الوَلَه ـ أدنى غفلة قلبيّة عن محبوبه ذنباً عظيماً وإن اهتمّ بعمل الجوارح بتمام أركانه، وليس إلاّ أنّه يرى أنّ قيمة أعماله في سبيل الحبّ على قدر توجّه نفسه وانجذاب قلبه إلى محبوبه، فإذا انقطع عنه بغفلة قلبيّة فقد أعرض عن المحبوب وانقطع عن ذكره وأبطل طهارة قلبه بذلك .
وهذه المرتبة من الذنب وإن كان لا يُعدّه الفهم العرفي ـ وربما أيضاً الفهم الديني العامّ ـ من مراتب الذنب، إلاّ أنّه مخطئ في ذلك لا لجور منهم في الحكم، بل لقصور فهمهم عن تعقّله وتبيّن معناه والوقوف على أحكامه واستحقاقاته. |
|
إرسال بالبريد الإلكتروني
كتابة مدونة حول هذه المشاركة
المشاركة في Facebook
|