Rss Feed


  1. صفحة 83
    قاعدة
    المحكم والمتشابه في القرآن
    نزول القرآن بين التنزيل والإنزال.
    معنى المحكم والمتشابه في القرآن.
    معنى كون المحكمات هُنّ أُمّ الكتاب.
    حكمة اشتمال الكتاب على المتشابهات.

    صفحة 84


    صفحة 85
    من الحقائق الأساسيّة التي لابدّ أن يتوفّر عليها المفسّر: الوقوف على أنّ الآيات القرآنيّة تنقسم إلى محكمات ومتشابهات؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران: 7).
    لكن قبل بيان المراد من ذلك، لا بأس بالإشارة إلى مقدّمة حاصلها:

    نزول القرآن بين التنزيل والإنزال
    تكرّر في النصوص القرآنيّة أنّه تارةً يعبّر عن نزوله بأنّه على نحو التنزيل؛ قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ) (الشعراء: 193 ـ 194)، وقال: (وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) (الإسراء: 106)، وقال: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ) (الزخرف: 31)، وأخرى على نحو الإنزال كما في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: 185)، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان: 3)، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1).
    وقد قيل في الفرق بينهما أنّ الإنزال دفعيّ والتنزيل تدريجيّ، وليس المراد بالتدريج في النزول هنا هو تخلّل زمان بين نزول كلّ جزء من أجزاء الشيء وبين جزئه الآخر، حتّى ينطبق على نزول القرآن مفرّقاً كما في قوله تعالى: (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) (الإسراء: 106)، بل المراد أنّ الأشياء المركّبة التي لها أجزاء متعدّدة، تارةً ينظر إليها باعتبار نسبتها إلى مجموع الأجزاء بما هي أجزاء مكوّنة لهذا المركّب، وأخرى ينظر إليها باعتبار نسبتها إلى كلّ جزء جزء سواء تخلّل بين كلّ جزء وجزء آخر زمان أو لم يتخلّل.
    فبالاعتبار الأوّل يكون الشيء كأنّه أمرٌ واحد لا يقبل الانقسام، وهذا هو المقصود بالوجود الدفعي، أمّا بالاعتبار الثاني فإنّه يكون قابلاً للانقسام إلى


    صفحة 86
    أجزاء وأقسام متعدّدة، وهذا هو الوجود التدريجي.
    ولعلّ هذين الاعتبارين هما منشأ التعبير عن نزول المطر تارةً بالإنزال كما في قوله: (وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) (الأنعام: 99)، وأخرى بالتنزيل كما في قوله: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) (الشورى: 28).
    إذا اتّضح ذلك نقول: إذا كان النظر إلى القرآن بالاعتبار الثاني، فيأتي التعبير عنه بالتنزيل كما في قوله تعالى: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) (آل عمران: 3) وأمّا إذا كان المقصود بيان بعض أوصاف وأحكام مجموع الكتاب النازل وخواصّه، وهو أنّه مشتمل ـ مثلاً ـ على آيات محكمة وأُخر متشابهة، أو أنّ لهذا الكتاب تأويلاً ونحو ذلك، فالكتاب ـ بهذا الاعتبار ـ مأخوذ أمراً واحداً من غير نظر إلى تعدّد وتكثّر وأجزاء، فالمناسب استعمال الإنزال دون التنزيل. ولعلّه لهذا قالت الآية: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران: 7).
    بعد هذه التوطئة يمكن الوقوف على المحكم والمتشابه في القرآن من خلال عدّة أبحاث:

    البحث الأوّل: معنى المحكم والمتشابه في القرآن
    للإحكام والتشابه إطلاقان في النصّ القرآني، وقبل بيانهما لا بأس بالإشارة إلى المعنى اللغوي للمحكم.
    ذكر اللغويّون أنّ مادّة «ح، ك، م» تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعّضه أو يخلّ أمره عليه، ومنه الإحكام والتحكيم، والتحكّم والحكومة، والحكم بمعنى القضاء، والحِكمة بمعنى المعرفة التامّة والعلم الجازم النافع، والحَكَمة ـ بفتح الحاء والكاف ـ : لجام الفرس أو حديدة فيه، تمنعه عن الجري الشديد أو مخالفة راكبه. ففي الجميع شيء من معنى المنع والإتقان.


    صفحة 87
    أمّا الإطلاقان فهما:
    الأوّل: كون الإحكام والتشابه وصفاً للكتاب كلّه. أمّا الإحكام ففي قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود: 1)، المراد بالإحكام هنا بقرينة مقابلته للتفصيل هو بيان حال من حالات الكتاب التي كان عليها قبل النزول، وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد بتكثّر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعّض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب. وكذلك التشابه فإنّه قد وقع وصفاً للكتاب كلّه أيضاً كما في قوله: (ِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (الزمر: 23)، والمراد به كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم وإتقان الأسلوب وبيان الحقائق والحِكَم والهداية إلى صريح الحقّ، كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية.
    الثاني: وهو الذي أشارت إليه الآية مورد البحث، حيث قسّمت الآيات القرآنيّة إلى محكمات ومتشابهات، ولازم ذلك أنّ الإحكام والتشابه هاهنا غير ما يتّصف به تمام الكتاب.
    وقد اختلف المفسِّرون من المتقدِّمين والمتأخّرين في بيان المراد من معناهما وتشخيص مصداقهما من الآيات إلى أقوال متعدّدة، يمكن إرجاعها ـ بنحو العموم ـ إلى اتّجاهين أساسيّين:
    الأوّل: إنّ المراد من التشابه في الآية هو التشابه والإجمال في المفهوم والمدلول الاستعمالي للفظ.
    الثاني: إنّ المراد هو التشابه في المصداق، بمعنى عدم معروفيّة المصداق مع وضوح المدلول المستعمل فيه اللفظ في نفسه.
    والصحيح هو الثاني؛ وذلك لأنّ الأوّل بعيد في نفسه لنكتتين:


    صفحة 88
    الأُولى: تصريح القرآن نفسه بأنّ آياته إنّما نزلت بياناً وتبياناً وهدىً ونوراً بلسان عربيٍّ مبين، وهذا لا ينسجم مع فرض التشابه المفهومي والإجمال الإبهامي.
    الثانية: التعبير بالاتّباع في قوله: (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) (آل عمران: 7) فإنّ الاتّباع لا معنى له إذا اُريد المتشابه المفهومي، إذ ذلك فرع وجود مدلول ظاهر يتعيّن فيه اللفظ، ومع التشابه المفهومي لا مدلول ليتّبع، وهذا بخلاف ما لو أُريد التشابه المصداقي، بمعنى أنّهم يتّبعون الآيات التي مصاديقها الخارجيّة متشابهة لا تتناسب مع المصداق الواقعي العيني الذي ينطبق عليه مفهوم الآية. فمثلاً كلمة «الصراط» في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الحمد: 6) أو العرش أو الكرسي في الآيات الأُخرى، مدلولها اللغوي واضح لا تشابه فيه، إلاّ أنّ مصاديقها الحسّية سنخ مصاديق لا تنسجم أن تكون هي المقصودة في هذه الآيات.
    والحاصل: ظاهر الآية إرادة التشابه المصداقي، بمعنى أنّ هناك أُناساً في قلوبهم زيغ فيتّبعون الآيات التي مصاديق مداليلها المفهوميّة في الخارج لا تنسجم مع واقع مصاديقها؛ لأنّ هذه من عالم الشهادة والمادّة وتلك من عالم الغيب، فيطبّقونها على المصاديق الخارجيّة الحسّية باعتبار عدم معروفيّة تلك المصاديق الغيبيّة وعجز الذهن البشري عن إدراكها في هذه النشأة، ويحاولون بذلك إلقاء الشبهة والفتنة والبلبلة في الأذهان، وهذا اتّجاه عامّ في فهم وتفسير الآيات المتشابهة.
    ومن الواضح أنّ الاختلاف لم يولّده اختلاف النظر في مفهوم الكلمات أو الآيات ـ أي مفهوم اللفظ أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي ـ وذلك لأنّه كلامٌ عربيٌّ مبين لا يتوقّف في فهمه عربيّ ولا غيره ممّن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.


    صفحة 89
    وليس بين آيات القرآن آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحيّر الذهن في فهم معناها، كيف! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلوّ الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتّى إنّ الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة اللفظ، وإنّما التشابه في المراد منها.
    وبعبارة واضحة: المستفاد من الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية مع حفظ كونها واضحة الدلالة لغةً ومفهوماً، إلاّ أنّها مردّدة لا من جهة اللفظ بحيث تعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العامّ والمطلق إلى المخصّص والمقيّد ونحو ذلك، بل من حيث المصداق الذي تنطبق عليه. فمثلاً قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11) استقرّ الذهن على أنّ المراد به هو التسلّط على الملك والإحاطة على الخلق، دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسّم المستحيل على الله سبحانه، وكذا قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة: 23) إذا رجع إلى مثل قوله:
    (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) (الأنعام: 103) علم به أنّ المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسّي.
    وقد قال تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) إلى أن قال: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم: 11، 12، 18) فأثبت للقلب رؤية تخصّه، وليست هي الفكر فإنّ الفكر إنّما يتعلّق بالتصديق والمركّب الذهني، والرؤية إنّما تتعلّق بالمفرد العيني، فيتبيّن بذلك أنّها توجّه من القلب، ليست بالحسّيّة المادّية ولا بالعقليّة الذهنيّة، والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.


    صفحة 90
    البحث الثاني: معنى كون المحكمات هن أُمّ الكتاب
    الأُمّ بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، وليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها، فالبعض من الكتاب (وهي المتشابهات) ترجع إلى بعض آخر (وهي المحكمات)، ومن هنا يظهر أنّ الإضافة في قوله: «أُمّ الكتاب» ليست لاميّة كقولنا: أُمّ الأطفال، بل هي بمعنى «من» كقولنا نساء القوم وقدماء الفقهاء ونحو ذلك. فالكتاب يشتمل على آيات هي أُمّ آيات أُخر.
    وفي إفراد كلمة «الأُمّ» من غير جمع، دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متّفقة مؤتلفة.
    فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقّاه الفهم من مجموع قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فإنّ الآية محكمه بلا شكّ ولو فرض جميع القرآن غيرها متشابهاً. ولو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة وفسد التقسيم الذي يدلّ عليه قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ) وبطل العلاج الذي يدلّ عليه قوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) ولم يصدق قوله: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً) (فصّلت: 3 و 4) ولم يتمّ الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن نورٌ وهدىً وتبيان وبيان ومبين وذكْر ونحو ذلك.
    ولعلّ في بعض الروايات إشارة إلى ما أوردناه في معنى المحكم والمتشابه.
    - ففي تفسير العيّاشي: «سئل الإمام الصادق عليه السلام عن المحكم والمتشابه فقال: المحكم ما يعمل به، والمتشابه ما يشبه بعضه بعضاً» (1).

    ــــــــــ
    (1) تفسير العياشي، مصدر سابق: أبواب مقدّمة التفسير، تفسير الناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والمحكم والمتشابه، ج1 ص85 .

    صفحة 91
    - وفيه أيضاً عن مسعدة بن صدقة قال: «سألت أبا عبد الله الصادق
    عليه السلام عن المحكم والمتشابه، قال: والمتشابه ما اشتبه على جاهله» (1).
    - وفي العيون عن الإمام الرضا عليه السلام: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم» ثمّ قال: «إنّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا» (2).
    والأخبار ـ كما ترى ـ متقاربة في تفسير المتشابه وهي تؤيّد ما ذكرناه في البيان السابق، من أنّ التشابه يقبل الارتفاع، وأنّه إنّما يرتفع بتفسير المحكم له.
    وأمّا ما ذكر في قوله عليه السلام من أنّ في أخبارهم متشابهاً كمتشابه القرآن ومحكماً كمحكم القرآن، فقد وردت في هذا المعنى عنهم عليهم السلام روايات مستفيضة وهو مقتضى القاعدة، فإنّ الأخبار لا تشتمل إلاّ على ما احتوى عليه القرآن الشريف ولا تبيّن إلاّ ما تعرّض له.

    البحث الثالث: حكمة اشتمال الكتاب على المتشابهات
    من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم اشتماله على المتشابهات حيث قيل: لماذا اشتمل القرآن على الآيات المتشابهة بحيث أدّى إلى أن يتمسّك به كلّ صاحب مذهب على مذهبه، ثمّ يسمّي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة متشابهة؟ أفلم يكن الأجدر بمَن يريد أن ينزل كتاباً لهداية البشر جميعاً، أن يجعله جليّاً نقيّاً عن المتشابهات، حتّى لا يقع الناس في الاشتباه والخطأ، ويغلق الطريق أمام مَن في قلبه مرض أن يوجد الفتنة والاختلاف في الأمّة؟
    ــــــــــ
    (1) المصدر السابق: ج1 ص87 .
    (2) عيون أخبار الرضا، الصدوق، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات: الحديث 39 ، ج2 ص261.


    صفحة 92
    والجواب عن ذلك: إنّ المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين:
    منها: معارف عالية خارجة عن حكم الحسّ والمادّة، والأفهام العاديّة لا تلبث دون أن تتردّد فيها بين المصداق الجسماني الحسّي وبين غيره، كقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر: 14) وقوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ) (الفجر: 22) فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام، معانٍ هي من أوصاف الأجسام وخواصّها، وتزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادّة والجسم عن المورد.
    وهذا ممّا يطّرد في جميع المعارف والأبحاث غير المادّية والغائبة عن الحواسّ، ولا يختصّ بالقرآن الكريم، بل يوجد في غيره من الكتب السماويّة بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، ويوجد أيضاً في المباحث الإلهيّة. وهو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: (أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد: 17)، حيث بيّنت أنّ حكم المثل جارٍ في أفعاله تعالى كما هو جارٍ في أقواله، ففعله تعالى كقول الحقّ إنّما قصد منهما الحقّ الذي يحويانه ويصاحب كلاًّ منهما أمور غير مقصودة ولا نافعة يعلوهما ويربوهما، لكنّها ستزول وتبطل ويبقى الحقّ الذي ينفع الناس، وإنّما يزول ويزهق بحقّ آخر مثله، وهذا كالآية المتشابهة تتضمّن من المعنى حقّاً مقصوداً، يصاحبه ويعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنىً آخر باطل غير مقصود، لكنّه سيزول بحقّ آخر يظهر الحقّ الأوّل على الباطل الذي كان يعلوه، ليحقّ الحقّ بكلماته ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
    ومنها: ما يتعلّق بالنواميس الاجتماعيّة والأحكام الفرعيّة، واشتمال


    صفحة 93
    هذا القسم من المعارف الدينيّة على الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى تغيّر المصالح المقتضية للتشريعات ونحوها من جهة ونزول القرآن مفرّقاً من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياته.
    وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث التأويل.
    خلاصة ما تقدّم في هذه القاعدة:
    - إنّ الآيات القرآنيّة تنقسم إلى محكم ومتشابه.
    - إنّ اشتمال القرآن على المتشابهات أمرٌ ضروريّ، كما سيتّضح لاحقاً.
    - إنّ المحكمات هنّ أُمّ الكتاب التي ترجع إليها المتشابهات رجوع بيان.
    - إنّ الإحكام والتشابه وصفان يقبلان الإضافة والاختلاف بالجهات، بمعنى أنّ آيةً ما يمكن أن تكون محكمة من جهة ومتشابهة من جهة أُخرى، فتكون محكمة بالإضافة إلى آية ومشابهة إلى آية أخرى، ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن، ولا مانع من وجود محكم على الإطلاق .
    - وبهذا يتأيّد أنّ المنهج الصحيح لفهم القرآن إنّما يكون من خلال تفسير بعض ببعض.


فهرس الكتاب