صفحة 60 صفحة 61 حجية الظهور القرآني
ونظريّة تعدّد القراءات
تحديد موضوع أصالة الظهور.
الملاك الصحيح للظهور الموضوعي.
حجّية الظهور بين عصر الصدور وعصر الوصول.
1 . تغيّر الظهور الموضوعي بتغيّر الزمان.
2 . أيّ الظهورين يقع موضوعاً للحجّية:
الظهور الموضوعي في عصر الصدور أم عصر الوصول؟ حجّية الظهور القرآني ونظريّة تعدّد القراءات قبل بيان الأساس المعرفي الذي تقوم عليه نظريّة تعدّد القراءات، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الظهورات التصديقيّة ـ التي هي المقصودة في موضوع حجّية الظهور ـ تنقسم إلى نوعين:
- أحدهما: الظهور الذاتي، وهو الظهور الشخصي الذي ينسبق إلى ذهن كلّ شخص شخص.
- والآخر: الظهور الموضوعي، وهو الظهور النوعي الذي يشترك فيه أبناء العرف والمحاورة.
وهما قد يختلفان؛ لأنّ الشخص قد يتأثّر بظروفه وملابساته وسنخ ثقافته أو مهنته أو غير ذلك، فيحصل في ذهنه أُنس مخصوص بمعنى مخصوص لا يفهمه العرف العامّ من اللفظ .
من هنا يعلم أنّ الظهور الذاتي الشخصي نسبيّ، قد يختلف من شخص إلى آخر، بخلاف الظهور الموضوعي، فهو حقيقة مطلقة ثابتة، لأنّه عبارة عن ظهور اللفظ المشترك عند أهل العرف وأبناء اللغة بموجب القوانين الثابتة عندهم للمحاورة وهي قوانين ثابتة متعيّنة، وإن شئت عبّرت بأنّه الظهور عند النوع من أبناء اللغة. ولذا يُعقل الشكّ فيه لكونه حقيقة موضوعيّة ثابتة قد لا يحرزها الإنسان وقد يُشكّ فيه.
والظهوران قد يتطابقان كما عند الإنسان العرفي غير المتأثّر بظروفه الخاصّة، وقد يختلفان فيخطئ الظهورُ الذاتيُّ الشخصيُّ الظهورَ الموضوعيَّ، وذلك إمّا لعدم استيعاب ذلك الشخص لتمام نكات اللغة وقوانين المحاورة، أو لتأثّره بظروفه الشخصيّة في مقام الانسباق من اللفظ إلى المعنى.
صفحة 64 استناداً لذلك يقع البحث حول هذه المسألة في جهتين:
الأُولى: في تحديد موضوع أصالة الظهور، وأيّ الظهورين يقع موضوعاً للحجّية؟
الثانية: في معرفة الملاك الصحيح للظهور الموضوعي.
1 . تحديد موضوع أصالة الظهور لا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع أصالة الظهور إنّما هو الظهور الموضوعي لا الذاتي والشخصي، وذلك لنكتتين:
الأُولى: إنّ الظهور الذاتي يتعدّد بتعدّد الشرائط والظروف الفكريّة والثقافيّة لكلّ شخص، ومعه يتعذّر أن يكون موضوعاً لحجّية الظهور التي أمضاها الشارع، لأنّ المعارف الدينيّة ـ التي بيّنت من خلال ظهورات النصوص الدينيّة ـ جاءت لجميع الناس على اختلاف مستوياتهم الفكريّة وظروفهم الاجتماعيّة، ولم تأتِ لطبقة خاصّة منهم وحسب فهم مخصوص لهم. فهناك واقع موضوعيّ لهذه المعارف جميعاً، لا يمكن الوصول إليها
ـ بحسب المتعارف ـ إلاّ من خلال الظهور الموضوعي الذي يشترك في فهمه جميع أبناء العرف والمحاورة، خصوصاً إذا أخذ بعين الاعتبار أنّ جميع هذه المعارف إنّما تستند إلى حقائق ثابتة في الواقع ونفس الأمر، وليست هي اعتبارات عقلائيّة تختلف من مجتمع لآخر أو من زمان لآخر.
الثانية: إنّ اللغة ظاهرة اجتماعيّة يُراد بها إفهام معانٍ معيّنة معلومة لدى جميع العقلاء، والنصّ الديني حينما خاطب الناس لم يخرج عن هذه الطريقة وأصولها التي تستند إليها، ولازم ذلك أنّ هذه النصوص إنّما تقوم على أساس الظهور الموضوعي المشترك بين الجميع دون الظهور الذاتي الذي يختلف من شخص لآخر.
صفحة 65 وبهذا يتبيّن أنّ الحجّية الثابتة للظهور إنّما هي بملاك الطريقيّة وكاشفيّة ظهور حال المتكلّم في متابعة قوانين لغته وعرفه، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله متابعة العرف المشترك العامّ لا العرف الخاصّ للسامع القائم على أساس أُنس شخصيّ وذاتيّ يختصّ به ولا يعلم به المتكلِّم عادةً.
2 . الملاك الصحيح للظهور الموضوعي من الحقائق التي لابدّ من الالتفات إليها أنّ الملاك الصحيح للظهور الموضوعي ليس هو الظهور المصيب أو المطابق للواقع، وإنّما المراد به أنّ الظهور استند إلى منهج صحيح في الاقتناص، بغضّ النظر عن إصابة الواقع وعدمها.
هذا هو الملاك الصحيح في الموضوعيّة والذاتيّة الموصوف بهما الظهور المقتنص. فلو حصل ظهور لإنسان من خلال اعتماده على منظومة فكريّة ومنهج استدلاليّ أقام الدليل على صحّته، فسوف يكون هذا الظهور موضوعيّاً، وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك، بمعنى أنّه لم يستند إلى منهج معرفيّ مستدِلاًّ على صحّته فلا يكون موضوعيّاً وإن أصاب الواقع ـ صدفةً واتّفاقاً ـ .
وهذا الملاك في الموضوعيّة يجري بعينه في مسألة تعدّد القراءات في النصّ الديني، وذلك لأنّ الواقع ـ في الأعمّ الأغلب ـ لا ينكشف لكلّ شخص، لكي نقول بأنّ القراءة الصحيحة هي خصوص المطابقة للواقع، وإنّما القراءة الموضوعيّة هي التي تستند إلى سياق معرفيّ مبرهن ومنهج استدلاليّ أُقيم الدليل على صحّته.
بعبارة أخرى: إنّ المدار في القراءة ـ لكي تكون موضوعيّة ـ : في الكاشف لا المكشوف، وهذا ما توفّرنا على توضيحه عند الوقوف على التفسير بالرأي.
بناءً على ذلك، فإنّ المناهج المعرفيّة، كالمنهج الفلسفي والكلامي
صفحة 66 والعرفاني والأخباري والتجريبي، يمكن عدّها جميعاً قراءات صحيحة للنصّ الديني، إذا كانت قائمة على أُسس وسياقات معرفيّة مستدلّة ومبرهنة. وبهذا يتّضح أنّ تعدّد هذه القراءات للنصّ الديني لا يرجع إلى تعدّد الظهور الشخصي والذاتي، بل مآله إلى الظهور الموضوعي نفسه.
حجّية الظهور بين عصر الوصول وعصر الصدور يعدّ هذا البحث من الأبحاث الجوهريّة والأساسيّة في مسألة حجّية الظهور، فبعد أن ثبتت الحجّية للنصّ القرآني، يطرح السؤال الآتي:
ما هو الظهور الموضوعي الحجّة؟ أهو الظهور المعاصر لزمن صدور الكلام أم الظهور المعاصر لزمان وصوله إلينا، بناءً على اختلاف الزمانين؟ وهنا بحثان:
الأوّل: هل يتغيّر الظهور الموضوعي بتغيّر الزمان؛ لكي يطرح السؤال المذكور؟
الثاني: بعد أن ثبت تغيّر الظهور الموضوعي، فهل الحجّية ثابتة لعصر الصدور، أم لعصر الوصول ؟
1 . تغيّر الظهور الموضوعي بتغيّر الزمان لا شكّ أنّ اللغة هي إحدى أهمّ الظواهر الاجتماعيّة التي صحبت المجتمع الإنساني منذ يومه الأوّل، فقد جاءت هذه الظاهرة تلبيةً لحاجة أفراد المجتمع إلى التفهيم والتفاهم ونقل المعاني بينهم، وبذلك تكون اللغة تابعة لكيفيّة الثقافة والفكر الذي يحكم ذلك المجتمع. من هنا تعدّدت اللغات في حياة الإنسان، إذ إنّ كلّ جماعة تحاول أن تؤمّن حاجاتها الضروريّة وتقاليدها في طريقة العيش بحسب ظروفها الزمانيّة والمكانيّة، واللغة من جملة الأدوات التي توجد العلاقة بين أفراد المجتمع الإنساني من جهة نقل المعاني وتفهيمها للآخرين.
صفحة 67 وعليه فكلّما تعقّدت حياة الإنسان فكريّاً وثقافيّاً تعقّدت اللغة واتّسعت وتعمّق مفهومها تبعاً لذلك، فقد كانت اللغة في المجتمعات الإنسانيّة البدائيّة تتّسم بالبساطة والسهولة ولا يكتنفها التعقيد والدقّة في الاصطلاحات، وهذا بخلافه في المجتمعات المتمدِّنة، فإنّا نجد اللغة تأخذ طابع التعقيد والدقّة وكثرة المصطلحات والمعاني، وقد سبّب ذلك ـ أي تقدّم اللغة بتقدّم الحياة الإنسانيّة ـ أن تؤلَّف المجامع العلميّة والقواميس اللغويّة بين فترة وأخرى نظراً للحاجة الملحّة في استحداث المعاني تبعاً لتطوّر الحياة العلميّة والثقافيّة في الساحة الإنسانيّة. بناءً على ذلك يكون تغيّر اللغة من زمان لآخر واقعاً ضروريّاً لا مفرَّ منه.
إلاّ أنّ المقصود بتغيّر اللغة ليس انتقال المعاني الأفراديّة من معنى إلى آخر، بل المقصود حسب فلسفة اللغة ما هو أعمّ من ذلك، أي الشامل للظهورات المرتبطة بالجمل التركيبيّة والمدلول التصديقي لا التصوّري والوصفي فقط، إذ يمكن لجملة تركيبيّة أن تدلّ على معنيين في زمنين مختلفين، بل في الزمن الواحد نفسه، نظراً لتعدّد الفنون والصناعات الفكريّة.
2 . الحجّية أهي للظهور الموضوعي في عصر الصدور أم عصر الوصول؟ بناءً على تغيّر الظهورات الموضوعيّة للكلام من عصر إلى آخر، ينبثق السؤال عن تحديد الظهور الموضوعي الذي يقع موضوعاً لأصالة الظهور؟
في هذا المجال يقول الشهيد الصدر قدّس سرّه:
«الصحيح أنّ الحجّية موضوعها الظهور الموضوعي في زمن صدور الكلام والنصّ لا وصوله. والنكتة في ذلك أنّ أصالة الظهور ليست تعبّديّة بل أصل عقلائيّ مبنيّ على تحكيم ظاهر حال المتكلِّم في الكشف عن مرامه، ومن الواضح أنّ ظاهر حاله الجري وفق أساليب العرف واللغة المعاصرة لزمانه،
صفحة 68 لا التي سوف تنشأ في المستقبل» (1).
إلاّ أنّ هذا البيان يستبطن أصلاً موضوعيّاً يقرّر أنّ النصّ الديني الصادر ـ قرآناً وسنّةً ـ ليس له إلاّ ظهور موضوعيّ واحد، ومن هنا يقع الكلام في الطريق المتّبع في تحديد هذا الظهور في عصر صدور النصّ.
لكن بناءً على ما تقدّم ـ من إمكان تعدّد الظهور الموضوعي واختلافه بحسب المناهج المتّبعة في اقتناص ذلك الظهور ـ لا ضرورة للإصرار على إحراز الظهور الموضوعي في عصر الصدور، بل يمكن القول: إنّ مَن كانوا موجودين عصر الصدور لهم ظهور موضوعيّ خاصّ ضمن الشروط والسياقات الفكريّة الموجودة عندهم آنذاك، وفي زماننا ـ أعني عصر الوصول ـ هناك ظهور موضوعيّ آخر ضمن الأجواء الفكريّة والثقافيّة والأُطر المعرفيّة الموجودة حاليّاً، يمكن أن يكون أعمق من ظهور عصر النصّ والصدور.
ثمّ إنّ النصّ الديني ليس منحصراً بالروايات والأحاديث لكي نبحث عن ظهوره في عصر الصدور ـ لاحتمال اختصاصه بذلك العصر ـ بل هناك القرآن الكريم الذي تمثِّل نصوصُه رسالةَ الإسلام الخاتمة، ومن المعلوم أنّه لم ينزل هذا النصّ لمجتمع صدر الإسلام فقط، بل هو رسالة الله إلى الناس في كلّ زمان ومكان إلى قيام يوم الدِّين، ولا مبرّر لأن يكون فهمنا من القرآن هو عين ما فهمه الناس وقت النزول.
وهذا البيان جارٍ على مستوى جميع معارف الدِّين ـ سواء وافق ما فهمه السابقون أو خالفه ـ لأنّه يمثِّل ظهوراً موضوعيّاً قائماً على أُسس ومناهج معرفيّة مختلفة.
ــــــــــ
(1) بحوث في علم الاُصول، تقريراً لأبحاث الشهيد السعيد آية الله العظمى السيّد محمّد باقر الصدر، بقلم: السيّد محمود الهاشمي. مكتب الإعلام الإسلامي، 1405هـ : ج4 ص293. |
|
إرسال بالبريد الإلكتروني
كتابة مدونة حول هذه المشاركة
المشاركة في Facebook
|