صفحة 52 صفحة 53 صفحة 54 صفحة 55 المدار في صدق المفهوم اشتمال المصداق على الغاية والغرض من القواعد الأساسيّة التي تفتح باباً مهمّاً لفهم المعارف القرآنية: أنّ المفاهيم التي استعملها القرآن الكريم، كالقلم والعرش والكرسي والكتاب واللوح وغيرها، يمكن أن تكون مختلفة المصاديق من حيث التجرّد والمادّية، بمعنى أنّ المفهوم وإن كان واحداً، إلاّ أنّ المصاديق يمكن أن تتنوّع لتشملـ بالإضافة إلى المصداق المتداول في حياتنا الحسّية ـ مصاديق أخرى فوق العالم المشهود، بنحو يكون الاستعمال فيها جميعاً حقيقيّاً. وقد حاول جملة من الأعلام أن يعطوا لهذه القاعدة طابعاً تنظيريّاً، منهم الفيض الكاشاني حيث تناول هذه النظرية في مقدّمات تفسيره قائلاً: «إنّ الكلام في ذلك هو من جنس اللّباب وفتح باب من العلم ينفتح منه لأهله ألف باب»، ثمّ أشار لهذا الأصل بما يلي: «إنّ لكلّ معنىً من المعاني حقيقةً وروحاً، وله صورة وقالب، وقد تتعدّد الصور والقوالب لحقيقة واحدة، وإنّما وُضعت الألفاظ للحقائق والأرواح، ولوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيهما على الحقيقة لاتّحاد ما بينهما. مثلاً لفظ القلم إنّما وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون اعتبار أن تكون الآلة من قصب أو حديد أو غير ذلك، بل ولا أن يكون القلم جسماً أو أن يكون النقش محسوساً أو معقولاً، وكون الألواح التي يُكتب عليها من قرطاس أو خشب، بل مجرّد كونه منقوشاً فيه. وهذه وحدها حقيقة اللوح وروحه، فإن كان في الوجود شيء يسطّر بواسطة نفس العلوم في ألواح القلوب، فأخلق به أن يكون هو القلم؛ قال سبحانه: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (القلم: 4 ـ 5)، بل هو القلم الحقيقي حيث وجد فيه روح صفحة 56 القلم وحقيقته وحدّه، من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه».الشيء نفسه يُقال عن مثال آخر هو الميزان «فإنّه موضوع لمعيار يُعرف به المقادير، وهذا معنى واحد هو حقيقته وروحه، وله قوالب مختلفة وصور ومصاديق شتّى، بعضها جسمانيّ مادّي، وبعضها روحانيّ مجرّد، كما يوزن به الأجرام والأثقال مثل ذي الكفّتين والقبّان وما يجري مجراهما، وما يوزن به المواقيت والارتفاعات كالاسطرلاب، وما يوزن به الدوائر كالفرجار، وما يُوزن به الأعمدة كالشاقول، وما يُوزن به الخطوط كالمسطرة، وما يوزن به الشِّعر كالعروض، وما يوزن به الفلسفة كالمنطق، وما يُوزن به بعض المدركات كالحسّ والخيال، وما يوزن به العلوم والأعمال كما يوضع ليوم القيامة، وما يوزن به الكلّ كالعقل الكامل، إلى غير ذلك من الموازين». ثمّ يخلص إلى القول: «وبالجملة ميزان كلّ شيء يكون من جنسه، ولفظة الميزان حقيقته في كلّ منها باعتبار حدّه وحقيقته الموجودة فيه، وعلى هذا القياس كلّ لفظ ومعنىً» (1). هذه النظرية هي التي تحوّلت إلى قاعدة من أهمّ القواعد التي شكّلت المنهج التفسيري للعلاّمة الطباطبائي في تفسيره «الميزان في تفسير القرآن» بل جعلها المفتاح الأساس الذي اعتمده على نطاق واسع لفهم عدد كبير من الحقائق القرآنيّة والدينيّة. ومن هنا أوضح أنّ كثيراً من الاختلافات التي وقعت بين المفسّرين ليست ناشئة عن اختلاف النظر في مفهوم الكلمات أو الآيات؛ فكيف يصحّ ــــــــــ (1) تفسير الصافي، تأليف: أستاذ عصره ووحيد دهره المولى محسن الملقّب بالفيض الكاشاني، المتوفّى سنة 1091هـ، منشورات مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 1979: ج1 ص29. صفحة 57 ذلك والقرآن كلامٌ عربيّ مبين، بل هو أفصح الكلام، ومن ثمّ ليس بين آيات القرآن آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحيّر الذهن في فهم معناها. وإنّما الاختلاف كلّ الاختلاف في المصداق الذي تنطبق عليه المفاهيم اللفظيّة من مفردها ومركّبها، وفي المدلول التصوّري والتصديقي.توضيحه: إنّ الأُنس والعادة يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا ـ عند استماع الألفاظ ـ معانيها المادّية أو ما يتعلّق بالمادّة، لأنّها هي التي تتقلّب فيها أبداننا وقوانا المتعلّقة بها ما دمنا في الحياة الدنيويّة. فإذا سمعنا ألفاظ الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرِّضا والغضب والخلق والأمر، كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات والمصاديق المادّية لمفاهيمها. وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك وأجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجِله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعيّة. وإذا سمعنا: أنّ الله خلق العالم وفعل كذا وأراد أو يريد أو شاء أو يشاء كذا، قيّدنا الفعل بالزمان حملاً على المعهود عندنا. وإذا سمعنا نحو قوله تعالى: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (ق: 35)، وقوله: (لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) (الأنبياء: 17) وقوله: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ) (الشورى: 36) وقوله: (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة: 28) قيّدنا معنى الحضور بالمكان، وإذا سمعنا نحو قوله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) (الإسراء: 16)، أو قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ) (القصص: 5)، أو قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ) (البقرة: 185)، فهمنا أنّ الجميع سنخ واحد من الإرادة، لِما أنّ الأمر على ذلك في ما عندنا، وعلى هذا القياس. هذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة فيما بيننا، ولا غضاضة في ذلك؛ لأنّ الذي أوجب علينا وضع هذه الألفاظ إنّما هي الحاجة الاجتماعيّة إلى التفهيم والتفهّم، ومن الواضح أنّ حاجة الإنسان إلى الاجتماع إنّما هو ليستكمل به في صفحة 58 الأفعال المتعلّقة بالمادّة ولواحقها، فوضَعنا الألفاظ علائم لمسمّياتها التي نريد منها غايات وأغراضاً عائدة إلينا.بيدَ أنّه كان علينا أن ننتبه إلى التغيّر الذي يطرأ على تلك المسمّيات المادّية، فهي محكومة بالتبدّل دائماً تبعاً لتبدّل الاحتياجات ذاتها وسيرها في طريق التحوّل والتكامل. على سبيل المثال اكتسب السراج الذي يستضيء به الإنسان صيغة بدائية تتألّف من فتيلة وشيء من الزيت، ثمّ لم يزل يتكامل حتّى بلغ اليوم السراج الكهربائي، بحيث تلاشت أجزاء السراج الذي صنعه الإنسان في البداية ووضع بإزائه لفظ السراج، الأمر نفسه ينطبق على القوّة في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: 60) بين ما كان يدلّ عليه من مصاديق سابقاً وبين مصاديقه الحاضرة. وفي جميع هذه الأمثلة وغيرها، بلغت المسمّيات حدّاً من التغيير إلى درجة فقدتْ معها جميع أجزائها السابقة ذاتاً وصفةً، والاسم مع ذلك باقِ، وليس ذلك إلاّ لأنّ المراد في التسمية إنّما هو الشيء في غايته المترتّبة عليه لا شكله وصورته، بل ولا حتّى مادّته المكوّنة له، فما دام غرض الاستضاءة أو الدفاع باقياً كان اسم السراج والقوّة باقياً على حاله. إذن كان حريّاً أن ننتبه إلى أنّ المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك ممّا لا مطمع فيه البتّة، ولكن العادة والأنس منعانا من ذلك، وهذا هو الذي دعا المقلّدة من أصحاب الحديث من الحشويّة والمجسّمة إلى أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير، وليس هو في الحقيقة جموداً على الظواهر، بل هو جمود على العادة والأُنس في تشخيص المصداق. لكن بين هذه الظواهر أنفسها أُمور تبيّن أنّ الاتّكاء والاعتماد على الأُنس والعادة في فهم معاني الآيات يشوّش المقاصد منها ويختلّ به أمر الفهم كقوله صفحة 59 تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11)، وقوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) (الأنعام: 103)، وقوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 91).في ضوء هذه النظريّة التي تفيد أنّ لهذه المفاهيم القرآنيّة حقائق واقعيّة ومصاديق خارجيّة تتناسب وشأنها، نحاول الوقوف على فهم المعارف القرآنية. غاية ما هناك أنّ الإدراك الإنساني ـ عموماً ـ يجد صعوبة كبيرة في فهمها، لأُلفته بمصاديق عالم المادّة دون ما يقع وراءه. ومن الواضح أنّ تطبيق هذا الأصل كقاعدة بارزة من قواعد المعرفة التفسيريّة سوف يؤدّي إلى حلّ كثير من المعضلات في المعارف العقائديّة، خصوصاً على صعيد المعرفة التوحيديّة، كما يؤدّي إلى تجاوز عدد من الالتباسات الخطيرة التي ابتُليت بها المسالك والمناهج الأُخرى. |
|
-
إرسال بالبريد الإلكتروني كتابة مدونة حول هذه المشاركة المشاركة على X المشاركة في Facebook |