صفحة 37 من الواضح أنّ القرآن إنّما أُنزل ليعقله الناس ويفهموه كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) (الزمر: 41)، وقال: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصّلت: 3)، وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3)، وقال: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 138) إلى غير ذلك من الآيات، ولا ريب أنّ مبيّنه هو الرسول صلّى الله عليه وآله كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44)، وقد بيّنه للصحابة، ثمّ أخذ عنهم التابعون.من هنا قد يقال: إنّ ما نقله هؤلاء الصحابة والتابعون لهم عنه صلّى الله عليه وآله إلينا فهو بيان نبويّ لا يجوز التجافي والإغماض عنه بنصّ القرآن، وما تكلّموا فيه من غير إسناد إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله فهو وإن لم يجر مجرى النبويّات في حجّيتها، لكن القلب إليه أسكن، فإنّ ما ذكروه في تفسير الآيات إمّا مسموع من النبيّ أو شيء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه وتعليمه صلّى الله عليه وآله، وكذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين ومن تلا تلوهم. وكيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تمكّنهم في العربيّة وسعيهم في تلقّيها من مصدر الرسالة واجتهادهم البالغ في فقه الدِّين على ما يقصّه التاريخ من مساعيهم في صدر الإسلام. لذا آمنت مدرسة الصحابة أنّ العدول عن طريقتهم وسنّتهم والخروج عن جماعتهم في تفسير آية من الآيات بما لا يوجد في أقوالهم وآرائهم بدعة، والسكوت عمّا سكتوا عنه واجب، وفي ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى. إلاّ أنّ ما ذُكر لا يمكن قبوله؛ وذلك: لأنّ ما ورد به النقل من كلام الصحابة ـ مع قطع النظر عن طرقه ـ لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة صفحة 38 أنفسهم، بل لا يخلو عن الاختلاف في ما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبّع المتأمّل في أخبارهم، والقول بأنّ الواجب حينئذ أن يختار أحد الأقوال المختلفة المنقولة عن الصحابة في الآية، ويجتنب عن خرق إجماعهم والخروج عن جماعتهم، مردود بأنّهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق ولم يلتزموا هذا المنهج ولم يبالوا بالخلاف فيما بينهم، فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا ولم يختصّوا بحجّية قولهم على غيرهم. لذا قال بعضهم: «كيف وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة».على أنّ هذا المنهج ـ وهو الاقتصار على ما نقل من مفسّري صدر الإسلام من الصحابة والتابعين في معاني الآيات القرآنيّة ـ يوجب توقّف العلم في سيره، وبطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوائل والكتب المؤلَّفة في التفسير في القرون الأولى من الإسلام، ولم ينقل منهم في التفسير إلاّ معانٍ ساذجة بسيطة خالية عن تعمّق البحث وتدقيق النظر، فأين ما يشير إليه قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89) من دقائق المعارف في القرآن؟ لذا لم يُنقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقيّ عن مثل العرش والكرسي والقلم واللوح وسائر الحقائق القرآنية وحتّى أُصول المعارف كمسائل التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة وما يلحق بها، بل كانوا لا يتعدّون الظواهر الدينيّة ويقفون عليها، وعلى ذلك جرى التابعون وقدماء المفسّرين حتّى نُقل عن سفيان بن عيينة أنّه قال: «كلّ ما وصف الله من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه» (1). وعن الإمام مالك أنّ رجلاً قال له: يا أبا عبد الله (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) ــــــــــ (1) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام عبد الرحمن جلال الدِّين السيوطي، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1403هـ: ج3 ص92. صفحة 39 كيف استوى؟ قال الراوي: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء (يعني العرق)، وأطرق القوم.قال: فسُريَّ عن مالك فقال: «الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإنّي أخاف أن تكون ضالاًّ». وأُمِرَ به فأُخرج (1). وأمّا استبعاد أن يختفي عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم والجدّ والاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات، والتناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم، إذ لا يتصوّر اختلاف ولا تناقض إلاّ مع فرض خفاء الحقّ واختلاط طريقه بغيره. من الأبحاث الأساسيّة التي وقع النزاع فيها كثيراً على مرّ تاريخ الإنسان الطويل، إمكان الاعتماد على نتائج الاستدلالات العقليّة في مختلف مجالات الفكر والعقيدة، والواقع أنّ هذا النزاع يمكن تصويره كما يلي: - تارةً بين الاتّجاه الحسّي الذي لا يؤمن إلاّ بنتائج العلوم الطبيعيّة القائمة على أساس المنهج التجريبي، والاتّجاه العقلي الذي ذهب إليه الفلاسفة عموماً، حيث آمنوا بإمكان الاعتماد على نتائج العلوم العقليّة القائمة على أساس المنطق الأرسطي. - وأُخرى بين الاتّجاه الذي يصرّ على الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنّة، والاجتناب عن تعاطي الأُصول المنطقيّة والعقليّة لفهم المعارف الدينيّة عموماً، وبين الاتّجاه الذي يعتقد أنّ الكتاب والسُنّة هما الداعيان ــــــــــ (1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، تحقيق: محبّ الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت: ج13 ص407. صفحة 40 إلى التوسّع في استعمال الطرق العقليّة الصحيحة، وهي المقدّمات البديهيّة أو المتّكئة عليها.وقبل هذا وذاك لابدّ من تعريف العقل، وماذا يُراد به في مثل هذه الأبحاث؟ العقل قوّة يتهيّأ بها إدراك العلوم النظريّة، وكأنّه نورٌ يُقذف في القلب، به يستعدّ لإدراك الأشياء، فإنّ الغافل عن العلوم والنائم يسمّيان عاقلين باعتبار وجود هذه القوّة مع فقدْ العلوم. وكما أنّ الحياة بها يتهيّأ الجسم للحركات الاختياريّة والإدراكات الحسّية، فكذلك العقل به يتهيّأ بعض الحيوانات للعلوم النظريّة. ويمكن تشبيه ذلك بالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان، لصفة اختصّت بها وهي الصقالة، وكذلك العين تفارق الأعضاء بصفة غريزيّة بها استعدّت للرؤية. فنسبة هذه القوّة في استعدادها لانكشاف العلوم كنسبة المرآة إلى صور الألوان ونسبة العين إلى صور المرئيّات. ببيان آخر: إنّ الحسّ لا ينال غير الجزئي المتغيّر، والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلّية، وهي غير محسوسة ولا مجرّبة، فإنّ التشريح مثلاً إنّما ينال من الإنسان أفراداً معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحسّ فيها مشاهدة أنّ لهذا الإنسان قلباً وكبداً مثلاً، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقلّ أو يكثر، وذلك غير الحكم الكلّي في قولنا: «كلّ إنسان فله قلب أو كبد»، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحسّ والتجربة فحسب، من غير ركون على العقليّات من رأس، لم يتمّ لنا إدراك كلّي ولا فكر فطريّ ولا بحث علميّ. فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحسّ في مورد يخصّ به، كذلك التعويل في ما يخصّ بالقوّة العقليّة. ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلّية والمدرك لهذه الأحكام صفحة 41 العامّة، ولا ريب أنّ الإنسان معه شيء شأنه هذا الشأن.إذن العقل يُطلَق على الإدراك من حيث إنّ فيه عقد القلب بالتصديق على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحقّ والباطل في النظريّات، والخير والشرّ والمنافع والمضارّ في العمليّات، حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أوّل وجوده، ثمّ جهّزه بحواسّ ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء، وبأخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ونحو ذلك. ثمّ يتصرّف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم، فيقضي فيها في النظريّات والأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاءً نظريّاً، وفي العمليّات والأمور المربوطة بالعمل قضاءً عمليّاً، كلّ ذلك جرياً على المجرى الذي تشخّصه له فطرته الأصليّة، وهذا هو العقل. إذا اتّضح ذلك نقول: إنّ الحياة الإنسانيّة قائمة على أساس الإدراك والفكر، ولازم ذلك أنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ كانت الحياة أقوم. وقد دعا القرآن إلى الفكر الصحيح وترويج طرق العلم في آيات كثيرة وبطرق وأساليب متنوّعة. ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذي يندب إليه، إلاّ أنّه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة وإدراكهم المركوز في نفوسهم، ولو تتبّعتَ الكتاب الإلهي ثمّ تدبّرتَ في آياته وجدتَ ما قد يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل، أو تلقّن النبيّ صلّى الله عليه وآله الحجّة لإثبات حقّ أو لإبطال باطل، أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما. بل لم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو من عنده أو يسلكوا سبيلاً وهم عُمي صفحة 42 لا يشعرون.وهذا الإدراك العقلي ـ أعني الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم ويبني على تصديق ما يدعو إليه من حقٍّ أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ ـ إنّما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ولا يختلف فيه اثنان، وإن فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنّما هو من قبيل المشاجرة في البديهيّات، ينتهي إلى عدم تصوّر أحد المتشاجرين أو كليهما حقّ المعنى المتشاجر فيه، لعدم التفاهم الصحيح. قد يُتساءل: أليس من الحقّ أن نعلن خشيتنا من أن تؤدّي خلفيّة القواعد العقليّة التي يحملها المفسّر إلى إسقاط هذه الرؤى على النصّ القرآني وتوجيهه بما ينسجم معها؟ الجواب: إنّها خشية مشروعة، وقد تحدّثنا سابقاً عن هذا المحذور وقلنا إنّ جملة من الاتّجاهات والمسالك الفلسفيّة والكلاميّة والعرفانيّة وأُخرى موغلة بالعلوم الطبيعيّة أو متولّعة بالنزعة الاجتماعيّة، حاولت حمل أُصولها ورؤاها على التفسير، وذكرنا أنّ هذا النمط من المسير الذي تسلكه هذه الاتّجاهات من تحميل معطيات العقل والمكاشفة أو حصائل العلوم المعاصرة على القرآن ليس تفسيراً بل هو تطبيق. فمثلاً لو كانت عندك قضيّة عن المبدأ أو المعاد أو عن النبوّة والإمامة، فإن وجّهت السؤال إلى العقل وأجاب عنه من خلال قواعده التي أسّسها في الفلسفة، ثمّ انصرفت تلقاء القرآن تجمع الشواهد من الآيات تؤيّد بها ما ذهب إليه العقل، فإنّ المجيب هنا هو العقل. وهذا بعكس ما لو اتّجهنا بالسؤال إلى القرآن مباشرةً، فعندئذ نكون بين يدي القرآن، نحن نسأل صفحة 43 والقرآن يُجيب. غاية ما هناك أنّ أجوبة القرآن قد تنطوي على احتمالات متعدّدة، فنحتاج إلى مرشد وهادٍ وموجّه يحثّ بنا الخُطى صوب مسار بعينه، هنا يأتي دور العقل كمصباح، فهو لا يوجد طريقاً بل يرشد إلى الطريق، فلو كان عند الإنسان طريق لكن ليس لديه نور يستضيء به فلا يستطيع أن يمشي في ذلك الطريق وينتفع به.إذن نحن أمام منهجين: أن نتّجه إلى العقل، أو إلى القرآن. في المنهج الأوّل نسأل العقل أوّلاً ثمّ نطبّق عليه الآيات، أمّا في المنهج الثاني فنسأل القرآن أوّلاً، لكن بهداية من العقل وتوجيه منه، والمنهجيّة ذاتها تنطبق على دور النقل. وبهذا يتّضح الفرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ماذا يقول القرآن؟ وأن يقول: ماذا يجب أن نحمل عليه الآية؟ فإنّ القول الأوّل يوجب أن يُنسى كلّ أمر نظريّ عند البحث وأن يتّكى على ما ليس بنظريّ، والثاني يوجب وضع النظريّات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها. الحاصل: أنّ هناك فرقاً بين التحميل والتوظيف، فلكي نفهم القرآن نحتاج إلى مجموعة من القواعد والمعطيات، فلو صحّ التمثيل تجد نفسك عندما تريد أن تفهم اللغة العربيّة مدفوعاً لدراسة النحو والصرف والبيان ونحو ذلك، فأنت تدرس هذه المقدّمات لكي تفهم الكلام العربي الذي يمثِّله النصّ القرآني، وكذلك ما صدر عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام، فمن دون أن تكون لك معرفة باللغة ودراية بأُصولها وقواعدها لا يمكنك أن تفهم القرآن من حيثيّته اللغويّة. وكذلك الحال من حيث المحتوى، فلكي يفهم الإنسان جوانب القرآن ونظريّاته ورؤاه لابدّ أن يكون مزوّداً بمجموعة من القواعد والمعطيات التي هي بمنزلة النور والمصباح الذي يضيء السبيل إلى الفهم. وبعبارة أوضح: إنّ دور صفحة 44 هذه القواعد العقليّة أنّها توجّه المسيرة وتدلّ على الطريق المتعيّن، لا أنّها تكون هي الطريق وتسقط معطيات العقل وتحمّلها على القرآن الكريم.تحصّل من جميع ما تقدّم أنّ هذا المنهج وإن كان يعتمد القرآن أساساً ومحوراً لفهم القرآن، إلاّ أنّه لا يلغي دور المصادر الأُخرى في العمليّة التفسيريّة، ولكن بشرط أن يقع جميع ما يتزوّد به المفسّر من علوم ومعارف في خدمة النصّ القرآني، لا أن يقع النصّ القرآني في خدمتها إثباتاً وتوكيداً. بمعنى: عدم حمل النتائج المعرفيّة للمعارف والعلوم المتنوّعة على النصّ القرآني، وتطويع النصّ القرآني لخدمة تلك النتائج إثباتاً وتوكيداً، فإنّ للنصّ القرآني معطياته الخاصّة به التي ينبغي أن تكون حاكمة لا محكومة. بعبارة أخرى: عدم تمكين النصّ القرآني في ضوء النتائج المعرفيّة المستقاة من معارف وعلوم أخرى في رتبة سابقة، فإنّ هذا يعني تقعيد النصّ القرآني في قوالب أُعدّت سلفاً ومصادرة معطياته. وهذا بدوره يُفضي إلى نتائج فرضتها طبيعة تلك المعارف والعلوم المختلفة وليس النصّ القرآني نفسه، ممّا يعني أنّ العمليّة التفسيريّة سوف تكون عمليّة تطويعيّة للنصّ القرآني وليست عمليّة تشخيصيّة لمرادات ومقاصد النصّ، فيكون الأداء التفسيري مجرّد عمل تطبيقي لنتائج المعارف الأُخرى، وبذلك تتحوّل العمليّة التفسيريّة الممنهجة إلى مجرّد أداء اتّجاهي، بل هي أخطر أنواع الاتّجاهات، كما هو واضح. وهو المنهج الذي يعتمد جميع المناهج المعتبرة، فإذا ما أمكن تفسير الآية بآية أخرى كان تفسيراً بالقرآن، وإذا ما أمكن تفسيرها بالرواية كان تفسيراً بالرواية، صفحة 45 وهكذا...، فالعمدة فيه هو اعتبار المنهج والدليل، فهو لا يقتصر على منهج دون آخر، فبأيّ منهج معتبر وصحيح أمكن الوصول إلى المراد من النصّ تحرّك المفسّر باتّجاهه.ومن الواضح أنّ هذا المنهج الجامع للمناهج الصحيحة الآنفة الذِّكر يرفع المؤونة كثيراً عن كاهل المفسّر، ويجعله يتحرّك بمرونة عالية جدّاً . وربما يتوهّم البعض بأنّ هذا المنهج التفسيري حديث الولادة وأنّه أفرزته التجربة التفسيريّة التي مرّت بمراحل عديدة، ولكن الصحيح هو أنّه من المناهج القديمة والمنتشرة أيضاً، ويكفينا في تحقيق ذلك مطالعة يسيرة للمصادر التفسيريّة ـ حتّى القديمة منها ـ حيث سنجد نماذج عديدة تدور رحى عمليّاتها التفسيريّة في ضوء هذا المنهج، وإن كنّا نعتقد أنّ هذا الأمر قد وقع من باب الاتّفاق لا القصد. فبلورة المناهج وتسمياتها واصطلاحاتها جاءت متأخّرة عن بدء العمليّة التفسيريّة بقرون عديدة. اتّضح لنا المنهج ـ اصطلاحاً ـ وهو طريقة الاستدلال أو الكيفيّة المعتمدة في إثبات المطلوب، وفي ضوء العمليّة التفسيريّة يكون المنهج هو الكيفيّة المعتمدة في الوصول إلى مُرادات ومقاصد النصّ القرآني. ولأجل هذه النكتة الجوهريّة ارتأينا التأكيد والتنبيه في أكثر من مورد إلى أهمّية المنهج في البحوث المعارفيّة وصولاً إلى النتائج المتوخّاة طبقاً للضوابط العلميّة الصحيحة. كما أنّه قد اتّضح لنا التنوّع في المناهج المتّبعة في العمليّة التفسيريّة. فالتي اعتمدت القرآن في عرض وفهم النصّ المراد تفسيره سوف يكون واضحاً لدينا أنّ هذه العمليّة قد اعتمدت منهج تفسير القرآن بالقرآن، وإذا اعتمدت صفحة 46 العمليّة التفسيريّة المجال الروائي في قراءة وتفسير النصّ القرآني يكون بيّناً لدينا أنّ هذه العمليّة التفسيريّة قد اعتمدت المنهج الروائي، وهكذا.إذا اتّضح ذلك جيّداً فإنّه ينبغي لنا الوقوف على المراد من الموضوعيّة والتجزيئيّة في العمليّة التفسيريّة . فكثيراً ما نقرأ في المصادر التفسيريّة والبحوث القرآنيّة أنّ هنالك تفسيراً موضوعيّاً وآخر تجزيئيّاً، فما هو المراد من هذين المصطلحين؟ وما علاقتهما بالمناهج المتّبعة في العمليّة التفسيريّة؟ إنّ الوظيفة الأساسيّة للتفسير التجزيئي تكمن في إبراز المدلولات التفصيليّة للآيات القرآنيّة دون إعطاء الموقف القرآني العامّ الذي يتشكّل عادةً من مجموعة مداليل تفصيليّة، بخلاف ما عليه التفسير الموضوعي فإنّه لا يكتفي بإبراز المضامين الجزئيّة للمفردات القرآنيّة وإنّما يتجاوز ذلك إلى ما هو أهمّ وأجدى، حيث يقوم بتحديد الموقف القرآني تجاه موضوع من موضوعاته المختلفة (1). ومن الواضح أنّ الموضوعيّة في المقام لا يُراد بها الموضوعيّة الواقعة في قِبال التحيّز والتعصّب والتطرّف، فإنّ التفسير التجزيئي هو الآخر ينبغي توفّر هذه الموضوعيّة فيه وإلاّ خرجت العمليّة التفسيريّة من دائرة المنهجة إلى دائرة الاتّجاهات، كما هو واضح. إذن فما هوالمراد من الموضوعيّة في المقام؟ ــــــــــ (1) المدرسة القرآنيّة، تأليف: سماحة آية الله العظمى الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، مؤسّسة الهدى الدوليّة للنشر والتوزيع، 1421هـ: ص35. صفحة 47 إنّ الموضوعيّة المُرادة في المقام تتقوّم بأمرين، هما:1 ـ أن يُفرز المفسّر الموضوعي مجموعة آيات قرآنيّة تشترك في موضوع واحد، وإن جاءت بألفاظ مختلفة؛ فيقوم المفسّر الموضوعي بعمليّة صياغة جديدة مفادها التوحيد بين مداليل هذه الآيات المتوحّدة موضوعاً، المختلفة عادةً في طريقة العرض، لينتهي بعد هذه العمليّة الإبرازيّة التوحيديّة إلى ثمرة البحث التفسيري الموضوعي، وهي: تحديد الموقف القرآني تجاه ذلك الموضوع. 2 ـ أن تسبق العمليّة التفسيريّة الموضوعيّة تحديد الموضوع الذي تبرزه عادةً التجربة الإنسانيّة، فإذا ما اُثير أمام المفسِّر موضوع ما يتّسم بالأهمّية في حركة المجتمع ـ معرفيّاً أو عمليّاً ـ فإنّه سوف يقوم بعرض هذا الموضوع الحياتي على النصوص القرآنيّة ومعطياتها وصولاً منه إلى استجلاء الموقف النهائي للقرآن تجاه ذلك الموضوع، ومن الواضح أنّ حدود الموقف القرآني هذا مرتبط بالقيمة المعرفيّة التي عليها المفسّر في قراءة النصّ القرآني. وكشاهد تطبيقيّ للتفسير الموضوعي الذي اعتُمد فيه منهجُ تفسير القرآن بالقرآن هو ما استفاده أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ أقلّ مدّة للحمل هي ستّة أشهر، وذلك من خلال جمعه بين الآيتين الكريمتين: قوله تعالى: (...وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً...) (الأحقاف: 15). وقوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (لقمان: 14). والفصال في المقام هو فترة الرضاعة وهي مدّة أربعة وعشرين شهراً، ففي المقام طُرحت مُشكلة شرعيّة اجتماعيّة أمام الخليفة الثاني لم يقف فيها على الموقف القرآني النهائي فيها، وهي مدّة الحمل، فظنّ أنّها المدّة الغالبة في الحمل، وهي تسعة أشهر كاملة، فمن تزوّجت وأنجبت قبل مرور هذه المدّة صفحة 48 المألوفة يكون حملها وإنجابها كاشفاً إنيّاً عن وقوع الزنا منها وعدم شرعيّة الحمل والطفل، والحكم في ذلك هو الرجم لا غير .وعلى أيّ حال، فبهذا الاستنتاج القرآني تسنّى لأمير المؤمنين عليه السلام إنقاذ امرأة مسلمة من الرجم (1). وينبغي أن يُعلم أنّ التفسير الموضوعي رغم ما أحدثه من طفرة معرفيّة نوعيّة في عالم التفسير إلاّ أنّه يبقى في أمسّ الحاجة إلى معطيات التفسير التجزيئي، فإنّ المداليل اللفظيّة الجزئيّة، وإن كانت لا تُحدّد موقفاً قرآنيّاً عامّاً تجاه الموضوع المبحوث عنه في التفسير الموضوعي إلاّ أنّها تمارس دوراً إيجابيّاً وفاعلاً في تحديد وتوجيه الصياغات الأوّليّة للنتاج المعرفي للنصّ القرآني والذي يتوخّاه المفسِّر في تفسيره الموضوعي. بعبارة أُخرى: إنّ التفسير الموضوعي عندما يقوم بعمليّة توحيد المداليل اللفظيّة يحتاج في ذلك إلى فهم نفس المداليل الأوّليّة بنحو تجزيئي، ثمّ ينتقل بعدها إلى عمليّة الربط وإيجاد العلاقات الصحيحة بين تلك المداليل الجزئيّة. فالعمليّة التفسيريّة بأسلوبها الموضوعي ـ أيّاً كان المنهج المتّبع فيها ـ لا تنفكّ أبداً عن الأسلوب التجزيئي، ممّا يعني أنّ جميع الشرائط المطلوبة في التفسير التجزيئي ينبغي أن يتوفّر عليها المفسّر الموضوعي. وهذه العلاقة الوطيدة بين هذين الأسلوبين ـ التجزيئي والموضوعي ـ إنّما هي من طرف واحد لا من طرفين متبادلين، فالتفسير التجزيئي لا توجد لديه حاجات أوّليّة في عرض المداليل اللفظيّة التجزيئيّة على معطيات التفسير ــــــــــ (1) انظر: السنن الكبرى للمحدّث الحافظ أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت: 458هـ)، نشر دار الفكر، بيروت: ج7 ص442. وأيضاً الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور للمحدِّث الحافظ جلال الدِّين السيوطي، نشر دار المعرفة، الطبعة الأُولى، 1365، بيروت: ج6 ص40. صفحة 49 الموضوعي إلاّ في حدود ضيّقة جدّاً، كما لو استعصى على المفسّر التجزيئي فهم مدلول لفظيّ معيّن في سياق آية معيّنة فإنّه ربّما يستعين بآية أُخرى استفادت من نفس اللفظ بنحو أكثر وضوحاً وانبساطاً، فيترشّح أمام المفسِّر المدلول اللفظي المُراد إبرازه أوّلاً، وفي هذه العمليّة التفسيريّة يوجد وجه شبه محدود جدّاً بالوظيفة الأوّليّة للتفسير الموضوعي، ولكنّه مع هذا الاحتياج الضئيل لا يُسمّى ذلك المورد بالتفسير الموضوعي لأنّ التفسير التجزيئي تنتهي وظيفته عند فهم مفردات النصّ القرآني، بخلاف التفسير الموضوعي الذي يهدف إلى شيء آخر وهو الوصول إلى الموقف القرآني النهائي في حدود الموضوع المعروض على القرآن.فتلخّص لدينا أنّ الأساليب التفسيريّة هي غير المناهج التفسيريّة الآنفة الذِّكر، ولكن دون أن تنفكّ عنها، كما هو واضح. بمعنى: أنّ المنهج التفسيري أيّاً كانت هويّته لابدّ أن يكون له أسلوب معيّن في الوصول إلى مرادات النصّ القرآني، وبذلك يُصار إلى أحد الأسلوبين المتقدِّمين (الموضوعي والتجزيئي). اتّضح لنا الأسلوب الموضوعي والأسلوب التجزيئي، وأمّا الأسلوب التركيبي فهو الأسلوب الجامع بين الأسلوبين المتقدِّمين، فيكون المفسّر مفسِّراً تجزيئيّاً موضوعيّاً، حيث يبدأ عادةً في الرتبة الأُولى بإبراز المداليل اللفظيّة للنصّ القرآني، ثمّ يقوم بعمليّة التوحيد المداليلي للخروج بنتيجة نهائية بعد أن يكون قد حدّد موضوعاً خارجيّاً قبل شروعه بالعمليّة التوحيديّة. إنّ هذا الأسلوب التركيبي نكاد نلمس آثاره في معظم التفاسير الرئيسيّة عند الفريقين، وإن جاء بنحو غير ملتفت إليه. صفحة 50 ومن الواضح أنّ صيغة وأسلوب التفسير التجزيئي هي الطاغية على الجوّ التفسيري العامّ في عالم التفسير.بمعنى: أنّ نسبة التفسير الموضوعي ضئيلة ومحدودة جدّاً لا تكاد تمثِّل شيئاً أمام السواد الأعظم من النتاج التفسيري التجزيئي. ولعلّ أولى المحاولات التفسيريّة المُمنهجة التي سلكت الأسلوب التركيبي بنحو واضح جدّاً ومُلتفت إليه أكيداً ما نجده في تفسير الميزان، وإن لم يُذكر فيه أو في غيره من المصادر التفسيريّة هذا الاصطلاح الذي أطلقناه على الأسلوب الثالث من أساليب التفسير. والذي نراه في المقام أنّ التفسير التركيبي هو أجدى أنواع الأساليب التفسيريّة، فإنّ الواقف على المداليل اللفظيّة يكون هو الأقرب إلى روح العلاقة أو الربط بين تلك المداليل والمضامين الجزئيّة، ممّا يعني أنّ وصوله إلى تحديد الموقف القرآني سيكون أكثر دقّة وحياطة. جديرٌ بالذِّكر أنّ التفسير الموضوعي هو الأقرب إلى منهج تفسير القرآن بالقرآن منه إلى غيره من المناهج الأُخرى، فالذي يلتزم فهم وتفسير القرآن بالقرآن يكون هو الأقرب إلى روح القرآن ومراداته العامّة ومواقفه النهائيّة ونتاجاته المفصليّة، فيكون المُعطى القرآني داعياً إلى إبراز المواقف النهائيّة للقرآن، وهذا هو التفسير الموضوعي. بعبارة أخرى: إنّ جملة من معطيات منهج تفسير القرآن بالقرآن تكمن في إيجاد الداعوية في نفس المفسّر إلى الصيرورة إلى التفسير الموضوعي، وكلّ بحسبه، فإنّ مَن أنس الألفاظ ومعانيها الجزئية ـ حتى وإن توسّل بمنهج تفسير القرآن بالقرآن ـ يعسر عليه عادةً الخروج من عالم المداليل الجزئية، بخلاف مَن أنس ضروب الأقيسة المنطقية والبرهانية والملازمات العقلية، فإنه عادةً ما يكون أقرب إلى التفسير الموضوعي. صفحة 51 وعلى أيّ حال، فخلاصة ما انتهينا إليه هو ضرورة التمييز بين المنهج والأسلوب التفسيريّين، وأنّ المنهج التفسيري أيّاً كانت هويّته لابدّ أن يؤدّي دوره ويعرض نتائجه ضمن أحد الأساليب التفسيريّة المتقدِّمة .كما أنّ الأسلوب التفسيري الثالث ـ التركيبي ـ هو الأسلوب الأكثر نضجاً والأقرب إلى واقعيّة النصّ القرآني ومقاصده. وينبغي الإشارة إلى أنّ المنهج والاتّجاه ربما استعملا وأُريد بهما خصوص الأسلوب لا غير، فيكون الاستعمال استعمالاً مجازيّاً أو مُسامحيّاً، وإلاّ فقد اتّضح لنا الفرق بين المنهج والاتّجاه، كما أنّه قد اتّضح الفرق بين المنهج والأسلوب، ومنهما يتّضح لنا الفرق بين الاتّجاه والأسلوب. في ضوء هذه الوقفة الممنهجة في بيان حقائق المنهج والاتّجاه والأسلوب، يكون بيّناً لدينا ما وقع فيه جملة من أعلام الفريقين ـ سواء في مجال الخوض في العمليّة التفسيريّة خصوصاً أو مجال المعارف القرآنيّة عموماً ـ من خلط واضح. |
|
-
إرسال بالبريد الإلكتروني كتابة مدونة حول هذه المشاركة المشاركة على X المشاركة في Facebook |