صفحة 28 وعلى أيّ حال فإنّ هذا المنهج التفسيري قد خدم الهدف التفسيري وهو تكريس مفهوم الهداية، باعتبار أنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية بالدرجة الأساس، وأنّ كلّ ما عدا ذلك ينبغي أن يكون متفرّعاً على هذه المحوريّة.ووجه الخدمة المعرفيّة التي قدّمها هذا المنهج العلمي التجريبي يكمن في مواجهة خصوم القرآن الذين عادةً ما ينطلقون من إشكاليّة عدم إمكان إخضاع المعارف القرآنيّة للتجربة، وبذلك يكون القرآن مجرّد كتاب وعظيّ لا يتوفّر على معارف حقيقيّة. وهنا يُحاول هذا المنهج إبطال هذه الفرية من خلال إخضاع العلم لمعطيات القرآن وإثبات مجموعة كبيرة من المعاجز العلميّة للقرآن، وذلك لإخباره بها قبل عصر العلم بقرون. هذا وقد اعتبر جملة من الأعلام أنّ هذا المنهج التفسيري هو أقرب للتطبيق منه للتفسير (1)، وقد اختلف اختلافاً كبيراً في اعتماد نتائجه، فأفرط قومٌ والتزموا به لا غير، مُحمّلين النظريّات العلميّة ـ التي ثبت بطلان الكثير منها فيما بعد ـ على القرآن، فجعلوا أنفسهم ناطقين عن القرآن يقبل ما يقبلونه وينفي ما ينفونه (2)، وفرّط قومٌ آخرون، فأنكروا أن يكون للقرآن أيّ صلة بالعلوم وأنّه مجرّد كتاب جاء ليبيِّن أحكام الآخرة وما يتعلّق بها (3)، والصحيح ــــــــــ (1) الميزان في تفسير القرآن، للعلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة، 1391هـ: ج1 ص7. (2) انظر الجواهر في تفسير القرآن المشتمل على عجائب بدائع المكوّنات وغرائب الآيات الباهرات، تأليف: الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري، نشر دار الفكر. (3) انظر: من المتقدّمين كتاب الموافقات في أصول الشريعة للفقيه الأندلسي أبي إسحاق الشاطبي، نشر دار المعرفة، بيروت. ومن المتأخّرين كتاب التفسير والمفسِّرون للدكتور محمّد حسين الذهبي المصري، نشر دار الكتب الحديثة. صفحة 29 في المقام هو أنّ المعطيات العلميّة التجريبيّة إذا كانت مؤيّدة لنصوص قرآنيّة قطعيّة الدلالة أو ظاهرة في ذلك، قبلنا بها وعندئذ تدخل في مجال الإعجاز العلمي للقرآن، وأمّا ما عدا ذلك فلا يصحّ الأخذ به أو اعتماده، ولكن لا بمعنى إلغاء المعطيات العلميّة التجريبيّة وإنّما بمعنى عدم تصحيح الوجه التطبيقي الذي مُورس في المقام، وبذلك تُحفظ كرامة القرآن الكريم من جهة، والجهود العلميّة التجريبيّة من جهة أخرى .وهو أوّل وأقدم وأهمّ المناهج التفسيريّة وأرفعها شأناً، فلا نكاد نجد مفسِّراً قد تنصّل عنه حتّى الذين اعتمدوا منهجاً خاصّاً بعينه كالتفسير بالمأثور وما شابه ذلك. ويُراد به ـ بنحو الإجمال ـ أن تكون النصوص القرآنيّة بعضها مفسّراً لبعض. وإذا ما عرفنا أنّ التفسير هو الكشف عن معاني ومرادات النصّ القرآني، فإنّه في ضوء هذا المنهج يكون النصّ القرآني المراد كشف معانيه منكشَفاً ومفسَّراً ـ بصيغة اسم المفعول ـ بنصّ قرآنيّ آخر. ويُعدّ هذا المنهج هو الأساس الذي يقوم عليه أسلوب التفسير الموضوعي ـ كما سيتّضح لاحقاً ـ وذلك لأنّه لا يمكن استخلاص أيّ نتائج مفصليّة ـ سواء كانت قبلية أو بعديّة ـ دون التزوّد بهذا المنهج. ولأجل توضيح هذه الفكرة، نقدّم هنا اُنموذجاً تطبيقيّاً يتعلّق بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن. ففي قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة: 185) يتبيّن أنّ القرآن نزل في شهر رمضان، لكن قد يتبادر إلى الذهن أنّ نزوله كان متدرِّجاً في تمام الشهر، إلاّ أنّ قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) (الدخان: 3) صفحة 30 يثبت أنّ نزوله كان في ليلة واحدة منه، لكن مع ذلك سنقف أمام قدر من الإبهام في المراد من هذه الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم، فما هي هويّتها؟هنا يأتي نصّ قرآنيّ ثالث لرفع هذا الإبهام وهو قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر: 1) وبذلك يتبيّن لنا أنّ هويّة الليلة المباركة هي ليلة القدر من هذا الشهر الكريم. بهذا المثال التقريبي يكون قد اتّضح لدينا سقف من سقوف تفسير القرآن بالقرآن، وهناك سقوف ومستويات أخرى غاية في التعقيد وتحتاج إلى فنّ وإتقان وبُعد نظر ـ كما ستقف عليه في بحوث هذا التفسير ـ . ويمكن عدّ هذا المنهج ـ أي تفسير القرآن بالقرآن ـ هو الأتمّ والأكمل، لذا اعتمده جملة من أعلام المفسِّرين؛ كالطبري والرازي والطوسي والطبرسي والطباطبائي. ولعلّ من أهمّ ما يستدلّ لإثبات هذا المنهج هو أن يُقال: إنّ القرآن وصف نفسه بأنّه نورٌ وأنّه هدىً وأنّه تبيان، فكيف يتصوّر كتاب له مثل هذه الأوصاف مفتقراً إلى هادٍ غيره ومستنيراً بنور غيره ومبيناً من خلال غيره ؟ قال الطباطبائي في تفسيره: «إنّ الطريق لفهم القرآن يمرّ من خلال منهجين: أحدهما: أن نبحث بحثاً علميّاً أو فلسفيّاً أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرّض لها الآية حتّى نقف على الحقّ في المسألة، ثمّ نأتي بالآية ونحملها عليه. وهذه طريقة وإن كان يرتضيها البحث النظري، غير أنّ القرآن لا يرتضيها. ثانيهما: أن نفسِّر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبّر صفحة 31 المندوب إليه في القرآن نفسه، ونشخّص المصاديق ونتعرّفها بالخواصّ التي تعطيها الآيات كما قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89) وحاشا أن يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه، وقال تعالى: (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185) وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة: 15).وكيف يكون القرآن هدىً وتبياناً وفرقاناً ونوراً مبيناً للناس في جميع ما يحتاجون إليه، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشدّ الاحتياج! وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69)، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن!» (1). والحاصل أنّ هذا المنهج يعتقد أنّه لا يمكن أن يكون القرآن مفتقراً إلى الغير في بيانه وتفسيره، وكيف يتصوّر ذلك في حقّه وهو مشتمل على الدلالات البيّنة والعلامات الشاخصة على معانيه والكشف عن اُمّهات المعارف الإلهيّة؟! بعد أن اتّضح أنّ الطريق إلى فهم القرآن غير مسدود، وأنّ البيان الإلهي والذِّكر الحكيم نفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه ـ حسب هذا المنهج ـ أي إنّه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى غيره، يأتي هذا التساؤل: ما هو دور الحديث في فهم القرآن الكريم؟ والجواب: إنّ هذا المنهج وإن كان يعتقد أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً كما ورد في بعض النصوص الروائيّة: ــــــــــ (1) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج1 ص11. صفحة 32 - قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إنّ القرآن ليصدّق بعضه بعضاً، فلا تكذّبوا بعضه ببعض» (1).- وقال عليّ أمير المؤمنين عليه السلام: «وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، وبيتٌ لا تُهدم أركانه، وعزّ لا تهزم أعوانه... كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله» (2). إلاّ أنّ هذا التفرّد في اعتماد القرآن لفهم القرآن لا يلغي الرجوع إلى المصادر الأُخرى، لاسيّما الروايات التفسيريّة، فإنّها قد تؤدّي دوراً توكيديّاً لما أسّسه الفهم القرآني للقرآن، وقد تؤدّي دوراً آخر وهو تعميق الفهم القرآني. فالرواية كثيراً ما تُلفت النظر التفسيري إلى مراتب معرفيّة قد يعسر الوصول إليها بدونها. ولكي تتّضح حقيقة وأهمّية هذا الدور لابدّ من الإشارة إلى أنّ هناك نظريّات متعدّدة لبيان دور الروايات في العمليّة التفسيريّة : الأُولى: وهي النظريّة التي لا تعترف بأيّ دور للنصوص الروائيّة لفهم القرآن، وربما هم أنفسهم أصحاب شعار: حسبنا كتاب الله. الثانية: نظريّة محوريّة السنّة، ويُراد بها تفسير القرآن بالروايات المأثورة فقط لا غير، ولعلّ هؤلاء هم الذين أنكروا حجّية ظواهر القرآن، واكتفوا بالنصوص الروائيّة لفهم القرآن وتفسيره. ــــــــــ (1) كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، للعلاّمة علاء الدِّين علي المتّقي بن حسام الدِّين الهندي، المتوفّى سنة 975، مؤسّسة الرسالة، 1399هـ : الحديث 2861، ج1 ص619. (2) نهج البلاغة، مجموعة ما اختاره الشريف الرضي من كلمات الإمام عليّ عليه السلام، ضبط نصّه وابتكر فهارسه العلميّة: الدكتور صبحي الصالح، منشورات دار الهجرة، قم: الخطبة 133. صفحة 33 الثالثة: نظريّة محوريّة القرآن والسنّة معاً، ويُراد بها اعتماد القرآن والروايات الواردة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام كمصدرين أساسيّين في العمليّة التفسيريّة، على هذا فلا ينحصر دور النصوص الروائيّة في كونها مؤكّدة ومعمّقة فحسب، وإنّما هي مصدر تفسيريّ أساسيّ.الرابعة: نظريّة محوريّة القرآن ومداريّة السنّة، وهي النظريّة التي اعتمدها الطباطبائي في تفسيره؛ قال في الميزان ـ مبيِّناً دور النبيّ صلّى الله عليه وآله، في فهم النصّ القرآني ـ : «من هنا يظهر أنّ شأن النبيّ صلّى الله عليه وآله في هذا المقام هو التعليم فحسب، والتعليم إنّما هو هداية المعلّم الخبير ذهنَ المتعلِّم وإرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به والحصول عليه، لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم، فإنّما التعليم تسهيل للطريق وتقريب للمقصد، لا إيجاد للطريق وخلق للمقصد، والمعلّم في تعليمه إنّما يروم ترتيب المطالب العلميّة ونضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلّم ويأنس به، فلا يقع في جهد الترتيب وكدّ التنظيم فيتلف العمر وموهبة القوّة أو يشرف على الغلط في المعرفة. وهذا هو الذي يدلّ عليه أمثال قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل: 44)، وقوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة: 2)، فالنبيّ إنّما يعلّم الناس ويبيّن لهم ما يدلّ عليه القرآن بنفسه ويبيّنه الله سبحانه بكلامه، ويمكن للناس الحصول عليه بالآخرة، لا أنّه صلّى الله عليه وآله يبيِّن لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى، فإنّ ذلك لا ينطبق البتّة على مثل قوله تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصّلت: 3) وقوله تعالى: (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 103) وهذا ما أكّدته الروايات الكثيرة الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام. عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إنّ الله أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج العباد إليه إلاّ بيّنه للناس، حتّى لا صفحة 34 يستطيع عبدٌ يقول: (لو كان هذا نزل في القرآن) إلاّ وقد أنزل الله فيه» (1).هذا مضافاً إلى الأخبار المتواترة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله المتضمّنة لوصيّته بالتمسّك بالقرآن والأخذ به وعَرْض الروايات المنقولة عنه على كتاب الله، فإنّه لا يستقيم معناها إلاّ مع كون جميع ما نقل عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ممّا يمكن استفادته من الكتاب، ولو توقّف ذلك على بيان النبيّ صلّى الله عليه وآله كان من الدور الباطل وهو ظاهر» (2). وبهذا أيضاً أجاب عمّا قد يُقال: من عدم الانسجام بين حديث الثقلين المتواتر الدالّ على حجّية قول أهل البيت عليهم السلام في القرآن ووجوب اتّباع ما ورد عنهم في تفسيره، والاقتصار على ذلك، وبين ما تقدّم من أنّ القرآن هدىً ونور وأنّه تبيان كلّ شيء، فلا يكون مفتقراً إلى هادٍ وغيره ومستنيراً بنور غيره ومبيِّناً بغيره من عقل أو رواية أو كشف عارف أو تجربة ونحوها؛ حيث قال: «ما ذكرناه في اتّباع بيان النبيّ صلّى الله عليه وآله آنفاً جارٍ هاهنا بعينه. على هذا فالمتعيّن في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية، وذلك بالتدرّب بالآثار المنقولة عن النبيّ وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم، وتهيئة ذوق مكتسب منها ثمّ الورود» (3) في العملية التفسيرية. وأمّا قوله صلّى الله عليه وآله: «لن يفترقا» فهو غير مسوق لإبطال حجّية ظاهر القرآن وقصر الحجّية على ظاهر بيان أهل البيت عليهم السلام، وإنّما المراد منه: «أنّه يجعل الحجّية لهما معاً، فيكون للقرآن الدلالة على معانيه والكشف ــــــــــ (1) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، العلاّمة الحجّة فخر الأمّة المولى الشيخ محمّد باقر المجلسي، مؤسّسة الوفاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثالثة 1403هـ : كتاب القرآن، الباب 8، إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، الحديث 9، ج92 ص81 . (2) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج3 ص85 . (3) الميزان في تفسير القرآن: ج3 ص86 ، 87 . صفحة 35 عن المعارف الإلهيّة، ولأهل البيت الدلالة على الطريق وهداية الناس إلى أغراضه ومقاصده» (1).ثمّ خلص إلى أنّه بما «مرّ من البيان يجمع بين الأحاديث الدالّة على إمكان نيل المعارف القرآنيّة منه وعدم احتجابها من العقول من قبيل: - ما رواه في المحاسن بإسناده عن أبي لبيد البحراني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في حديث قال: «فمَن زعم أنّ كتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك». - ويقرب منه ما فيه وفي الاحتجاج عنه عليه السلام قال: «إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله». مضافاً إلى أنّ نظير ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن والتدبّر فيه وعَرْض ما نقل عنه عليه، واردٌ عن أهل البيت عليهم السلام. كما أنّ هناك جمّاً غفيراً من الروايات التفسيريّة الواردة عنهم عليهم السلام مشتملة على الاستدلال بآية على آية، والاستشهاد بمعنىً على معنىً، ولا يستقيم ذلك إلاّ بكون المعنى ممّا يمكن أن يناله المخاطب ويستقلّ به ذهنه لوروده من طريقه المتعيّن. وبيّن ما ظاهره خلافه كما في تفسير العيّاشي عن جابر قال: «قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرِّجال منه ـ أي فهم القرآن ـ . إنّ الآية لتنزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متّصل ينصرف على وجوه» وهذا المعنى وارد في عدّة روايات. وقد رويت الجملة ـ أعني قوله: «وليس شيء أبعد» ـ في بعضها عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد روي عن عليّ عليه السلام: «إنّ القرآن حمّال ذو وجوه». ــــــــــ (1) المصدر نفسه: ج3 ص86 . صفحة 36 فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه، والذي نهى عنه تفسيره من غير طريقه» (1).فتحصّل أنّ هذا المنهج وإن كان يعتقد أنّه يمكن الاستمداد بالقرآن لفهم القرآن، لأنّ القرآن يفسِّر بعضه بعضاً، إلاّ أنّ السؤال: هل ذلك ميسّر لكلّ أحد من غير توجيه وهداية من بيانات الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام؟ والجواب: إنّه لولا هداية وبيان هؤلاء عليهم السلام للمنهج الذي ينبغي اتّخاذه لاستخراج معارف القرآن الكريم لما أمكن ذلك . عن أبي لبيد البحراني قال: «جاء رجل إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام بمكّة فسأله عن مسائل فأجابه فيها، ثمّ قال له الرجل: أنت الذي تزعم أنّه ليس شيء في كتاب الله إلاّ معروف؟ قال: ليس هكذا قلت، ولكن ليس شيء من كتاب الله إلاّ عليه دليلٌ ناطق عن الله في كتابه ممّا لا يعلمه الناس» (2). ممّا تقدّم يتّضح دفع ما قد يعتمل في ذهن البعض، أنّ هذا المنهج ـ الذي اعتمده الطباطبائي في تفسيره ـ يلغي دور النصوص الروائيّة في العمليّة التفسيريّة، حيث قد تبيّن أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّ هذا المنهج وإن كان يعتمد القرآن كمحور في فهم النصّ القرآني، إلاّ أنّه لا يلغي دور النصوص التفسيريّة في هذا المجال، وبهذا تحفظ كرامة القرآن ومحوريّتها من جهة، وأهمّية الروايات ودورها في العمليّة التفسيريّة. ــــــــــ (1) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، بتصرّف. (2) بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار: كتاب القرآن، الباب 8 ، الحديث 34، ج2 ص90 . |
|
-
إرسال بالبريد الإلكتروني كتابة مدونة حول هذه المشاركة المشاركة على X المشاركة في Facebook |