المناهج التفسيرية
الأوّل: منهج التفسير الروائي.
الثاني: منهج التفسير العقلي.
الثالث: منهج التفسير العلمي.
الرابع: منهج تفسير القرآن بالقرآن.
- دور الحديث في فهم القرآن.
- دور الصحابة في فهم القرآن.
-دور العقل في فهم القرآن.
الخامس: منهج التفسير الجامع.
الفرق بين المنهج والأسلوب التفسيريّين.
- الأسلوب التجزيئي والأسلوب الموضوعي.
- الأسلوب التركيبي. صفحة 20 صفحة 21 بعد أن اتّضح لنا أنّ المنهج هو الطريق الواضح وأنّه الكيفيّة الاستدلاليّة على المطلوب، يمكننا الخروج بفهم واضح عن المنهج التفسيري، فهو الكيفيّة المعتمدة في كشف معاني القرآن الكريم ومقاصده. فإذا كانت العمليّة التفسيريّة تُمثِّل نفس الكشف عن مقاصد ومرادات القرآن الكريم فإنّ المنهج التفسيري هو الهيئة التي يقع عليها ذلك الكشف، فإذا كانت الهيئة والكيفيّة علميّة بحثيّة تحقيقيّة فإنّ العمليّة التفسيريّة سوف تكون مُمنهجة، وإلاّ فهي مجرّد ركام معلوماتيّ لا يزيد الباحث والمتوغِّل فيها إلاّ بُعداً عن هدفه المعرفي والعلمي الذي يصبو إليه من وراء العمليّة التفسيريّة .
وعليه، فحيث إنّ المنهج التفسيري هو الهيئة والكيفيّة الكشفيّة عن مقاصد القرآن الكريم فإنّ هذه الهيئة والكيفيّة قد اختلفت صورها ونتائجها، وهذا الاختلاف البحثي والنتائجي هو ما نُعبِّر عنه أحياناً باختلاف مناهج التفسير.
فالهيئات والكيفيّات التفسيريّة تعني ـ تحديداً ـ مناهج التفسير أو مدارس ومذاهب التفسير ـ كما يرى البعض ـ التي اختُلِف في عددها وحقيقتها.
وفي هذا المضمار حاول جملة من أصحاب الفنّ في العلوم القرآنيّة أن يُقدّموا لنا دراسات جديدة في مناهج التفسير حرصت على ضبط المناهج التفسيريّة المعتمدة عند علماء التفسير.
ولكن هذه الدراسات رغم جدّيتها وجدواها قد توهّمت في قضيّة مهمّة وهي حصر المناهج والاتّجاهات التفسيريّة بعدد معيّن أبرزوا فيها مقوّماتها ونماذجها الصادرة في ضوئها، وهذا أوّل خطأ منهجيّ وقع فيه من صنّف في صفحة 22 المناهج والاتّجاهات التفسيريّة.
فإنّ المناهج التفسيريّة لا ينبغي حصرها بعدد معيّن إلاّ من باب الاستقراء الناقص لما وقع منها دون الالتزام بالانتهاء عندها؛ وبكلمة واحدة: لا يمكن عدّها وحصرها بما وقع منها وإلاّ فإنّ جملة منها قد جاءت متأخّرة، بل إنّ أكثرها لم يكن ملتفتاً إليها .
بعبارة أُخرى: إنّ جملة من مفسِّري القرآن الكريم ـ إن لم يكن الأعمّ الأغلب منهم ـ يمارس العمليّة التفسيريّة دون أن يحدّد في رتبة سابقة منهجاً تفسيريّاً معتبراً يعتمده في كشف معاني القرآن. فغاية ما عنده هو كمٌّ معلوماتيّ ينهل منه ما يحتاجه في ضبط مقاصد الكتاب دون أن يكون هنالك ضوابط وقواعد واضحة في ذهنه ليُخرج بها ما شذّ عنها ويُدخل ما يصحّ بها.
وهذا يعني أنّ المناهج التفسيريّة إنّما قُنّنت في مراحل متأخّرة جدّاً عن العمليّة التفسيريّة التي انطلقت منذ عهد الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله.
وقد عبّرنا عن كونها قد قُنّنت في مراحل متأخّرة؛ لأنّها من حيث التأسيس والتأصيل ـ ولو على مستوى العمل بها لا التنظير لها ـ قد انطلقت مُتزامنة مع المراحل الأوّليّة للعمليّة التفسيريّة. فغاية ما أثاره مصنّفو كتب المناهج التفسيريّة هو رصد تلك المناهج المبعثرة في المتون التفسيريّة، ثمّ تصنيف الكتب التفسيريّة في ضوء ما رصدوه من مناهج، من قبيل تسمية تفسير العيّاشي (1) وتفسير الصافي (2) وتفسير البرهان (3) وتفسير نور الثقلين (4)
ــــــــــ
(1) للشيخ أبي النضر محمّد بن مسعود العياشي (ت: 320هـ).
(2) للشيخ المولى محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (ت: 1091هـ)، وكان فقيهاً فيلسوفاً عارفاً أخلاقيّاً كبيراً.
(3) للعلاّمة المحدّث السيّد هاشم البحراني (ت: 1107هـ).
(4) للشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي (ت: 1112هـ)، كان محدِّثاً جليلاً.
صفحة 23 بالتفاسير الروائيّة؛ أي إنّها قد اعتمدت المنهج الروائي في الكشف عن معاني ومقاصد القرآن الكريم، وهكذا في كون تفسير يتبع المنهج العقلي أو التجريبي أو الكلامي ونحوها.
وعلى أيّ حال، فإنّ ما نُريد أن ننتهي إليه هو أنّ تقسيم المناهج المتداولة في جملة من المصنّفات إنّما هي قسمة استقرائيّة وليست عقليّة حصريّة كما هو واضح، ممّا يعني أنّ تأسيس الضابطة العامّة للتفسير ومنهجة التفسير في العمليّة التفسيريّة لا تختصّ بمنهج دون آخر، ولا بمناهج دون أُخرى، ولا بما هو موجود آناً دون ما يمكن تأسيسه أو اكتشافه من مناهج تفسيريّة أُخرى.
- منهج التفسير الروائي.
- منهج التفسير العقلي.
- منهج التفسير العلمي التجريبي.
- منهج تفسير القرآن بالقرآن.
-المنهج التفسيري الجامع.
ولعلّ هذه هي أهمّ المناهج التفسيريّة التي يمكن رصدها في التفاسير المعروفة، لذا سوف نحاول الوقوف عليها ـ ولو إجمالاً ـ ليتّضح من خلالها المنهج الذي سنتّبعه في بحوث هذا الكتاب.
التفسير بالروايات المأثورة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، وعترته الطاهرة عليهم السلام، يشكِّل حلقة وثيقة في سلسلة المناهج التفسيريّة المعتبرة عند أعلام الأمّة. من هنا توجّهت أنظار أصحاب الفنّ إلى البحث في مصدريّة المُتون صفحة 24 الحديثيّة والدلالات اللفظيّة لها طبقاً للضوابط المعتبرة في ذلك.
وقد وقع خلاف حادّ بين الأعلام في تشخيص مصدريّة الحديث سعةً وضيقاً. ففي الوقت الذي اقتصرت مدرسة أهل البيت عليهم السلام على الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وعترته الطاهرة عليهم السلام ـ مُعتبرة ما عداهم مجرّد رواة يخضعون للجرح والتعديل ـ أطلقت مدرسة الصحابة (1) الدائرة لتشمل جميع الصحابة مُخرجة بذلك ـ بالضمن ـ الأعمّ الأغلب من العترة الطاهرة، حيث اقتصرت على من صدق عليه عنوان الصحابي منهم، وقد انعكس ذلك بصورة مباشرة على مجموعة علوم إسلاميّة، أهمّها علم الكلام وعلم الفقه وعلم التفسير.
وفي ضوء الخلاف والاختلاف الواقع في تحديد هويّة ومصدريّة الرواية وضوابط قبول الراوي تبرز أمامنا جدوى وأهمّية التحقيقات العلميّة في هذه الفنون العلميّة الإسلاميّة.
هذا، ويُعتبر التفسير الروائي من التفاسير القديمة أيضاً والمنتشرة آنذاك، بل يكاد أن يكون التفسير الروائي هو التفسير الحاكم والمهيمن على الساحة التفسيريّة طيلة القرون الثلاثة الأولى من الهجرة الشريفة، ولعلّ من أسباب هيمنة هذا المنهج التفسيري الذي اقترن عادةً بالأسلوب التجزيئي هيمنة النزعة الروائيّة والحديثيّة آنذاك (2)، حيث كان العلماء آنذاك جُلّهم مُحدّثين، فيكون من الطبيعي جدّاً هيمنة البُعد الروائي وبروز النزعة الحديثيّة.
ــــــــــ
(1) المراد بمدرسة الصحابة جميع المذاهب الأُخرى غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
(2) انظر: المدرسة القرآنيّة، للسيّد الشهيد محمّد باقر الصدر قدّس سرّه، إعداد وتحقيق لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر قدّس سرّه، نشر مركز الأبحاث والدراسات التخصّصيّة للشهيد الصدر قدّس سرّه، الطبعة الثانية المحقّقة، 1424هـ، قم المقدّسة: ص24.
صفحة 25 ومن هنا وقع الكلام في أنّ التفسير الروائي أ هو تفسير اصطلاحي، أم هو مجرّد شعبة من شُعب الحديث؟ فكما أنّ هناك روايات فقهيّة وأخرى عقائديّة وأخرى أخلاقيّة فكذلك هنالك روايات تفسيريّة، ومجرّد سوق الروايات في ذيل الآيات القرآنيّة لا يُصيّرنا مُفسِّرين، كما أنّ سوق الروايات الفقهيّة لا يجعل منّا فقهاء، وعلى سبيل المثال لا الحصر نرى كتاب وسائل الشيعة ـ وهو من أهمّ الكتب المعتمدة في عمليّة استنباط الحكم الشرعي ـ قد جمع وبوّب فيه مصنّفه معظم الروايات الفقهيّة بنحو عالٍ من الدقّة، فحفظ الأسانيد ووحدة الموضوعات فيها، ولكن ذلك كلّه لم يُصيّر من الحرّ العاملي فقيهاً، وإنّما صار فقيهاً لمكنته من استنباط الحكم الشرعي لا لجمعه روايات الفقه.
وعلى أيّ حال فإنّ هذا المنهج التفسيري على ما فيه من مسامحة من صدق العمليّة التفسيريّة الاصطلاحيّة عليه، فإنّه يُعاني من أزمة كبيرة تكمن في محدوديّة الروايات الواصلة إلينا، التي لا تكفل لنا سوى تفسير نصف القرآن، بل ثُلثه بصورة ترتيبيّة، هذا إذا غضضنا الطرف عن أسانيد الروايات التفسيريّة التي عادةً ما نجدها مُبتلاة بضعف السند والإسرائيليّات (1). ولعلّ قلّة الروايات هذه من جهة، وضعف أسانيد كثير منها من جهة أخرى، جعل العمليّة التفسيريّة تسير ببطء شديد، لاسيّما في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ويقلّ بل يندُر الاهتمام بعلم التفسير، هذا فضلاً عمّا يستلزمه هذا العلم من
ــــــــــ
(1) الإسرائيليّات جمع إسرائيليّة، وهي قصّة أو أُسطورة تُروى عن مصدر إسرائيلي، سواء أكان عن كتاب أو شخص تنتهي إليه سلسلة أسناد القصّة، وهذا الاصطلاح استعمله علماء التفسير والحديث، ويُريدون به كلّ ما تطرّق إلى التفسير والحديث والتاريخ من أساطير قديمة، انظر: كتاب «التفسير والمفسِّرون» للأُستاذ المحقّق محمّد هادي معرفة، نشر الجامعة الرضويّة للعلوم الإسلاميّة، الطبعة الثانية، 1428هـ، إيران: ج2 ص594.
صفحة 26 مناخات اجتماعيّة خاطئة تدور في الأروقة العلميّة ويصعب تجاوزها.
وعلى أيّة حال، فإنّ هذه المناخات السلبيّة لم تقتصر على التفسير وحده، وإنّما شملت دائرتها كُلاًّ من الكلام ـ علم العقائد ـ والفلسفة، بل شملت الأدبيّات أيضاً.
الثاني: التفسير العقلي الاجتهادي وفيه يعتمد المفسِّر على الأدلّة والقواعد والقرائن العقليّة أكثر ممّا يعتمده من الأدلّة النقليّة، وقيد القطعيّة أساسيّ وضروريّ لكي لا يدخل هذا القسم في دائرة التفسير بالرأي الاصطلاحي الممقوت عقلاً والممنوع شرعاً.
وقد انطلق التفسير الاجتهادي منذ أن فُتح باب الاجتهاد في القرن الهجري الأوّل، وتحديداً في النصف الثاني من صدر الإسلام، فما يُقال من أنّ باب الاجتهاد قد فُتح في عهد التابعين منقوضٌ باجتهادات الخلفاء الثلاثة الأوائل.
إنّ هذا المنهج التفسيري على ما يحمله من قوّة إبداعيّة وامتيازات علميّة إلاّأنّه محفوف بالمخاطر والزلل، والوقوع في هذه المخاطر المعرفيّة والشرعيّة لا يُمثّل حالة الاستثناء من القاعدة أو الطارئة في مجريات التفسير الاجتهادي وإنّما هي حالة كثيرة الوقوع، يمكن إضعافها بواسطة المتابعة والمثابرة والإخلاص في النيّة والعمل.
وكثيراً ما يكون هذا المنهج التفسيري مطيّة لمن يهدف دعم ما يؤمن به وما يعتقده، فيُحمّل النصّ القرآني ما يعتقده هو، ويلوي عُنق النصّ باتّجاه ما يُريد معتقداً بأنّ هذا مغفورٌ له ما دام مجتهداً، ومن هنا ينبغي الحيطة والحذر من الوقوع في توجيه النصّ باتّجاه قصديّات سابقة على النصّ، فهذا النوع لا يخرج عن كونه تفسيراً بالرأي ـ كما تقدّم ـ. صفحة 27 ولا ينبغي توهّم عدم احتياج أو مدخليّة العمليّة التفسيريّة في توطيد أرضيّة العقيدة والشريعة والأخلاق، فذلك من جملة الثمرات الإيجابيّة للتفسير، وإنّما الممنوع والمُستهجن هو الانتصار لذلك على حساب مفردات النصّ ومفاده، وهذا ممّا يُفقد النصّ قُدسيّته وهدفيّته، ويُفقد العمليّة التفسيريّة هدفها وجدواها.
فإعمال الرأي والنظر في التفسير إذا كانت أرضيّتُه الدليليّةَ القطعيّةَ أو ما هو قريب من ذلك فهو ممّا يُلتزم به ويُعتمد عليه، ودون هذه الأرضيّة لا يبقى مجال لاعتبار النتاج التفسيري الاجتهادي.
الثالث: التفسير العلمي التجريبي والمراد به في المقام مجموعة القضايا الحقيقيّة القابلة للإثبات بواسطة التجربة والمشاهدة والحسّ، وهذا المقدار من العلم هو ما تلتزم به الفلسفة الوضعيّة التي اعتمدت التجربة في إثبات ما له واقعيّة خارجيّة، وبذلك خرج كلّ ما لم يُمكن إثباته تجريبيّاً عن حريم العلم، وبذلك لم يعد للقضايا الغيبيّة الميتافيزيقيّة موضع للبحث عندهم ما دامت غير قابلة للتجربة والمشاهدة.
وحيث إنّ هذا المنهج التفسيري يعتمد على الاستقراء بالدرجة الأُولى في رصد مفردات التجربة فإنّه يبقى عاجزاً عن تقديم نتائج قطعيّة؛ لعدم مكنته من الوصول إلى استقراء تامّ، ولذلك فإنّ نتائجه ستبقى ظنّية بحاجة إلى مُتمّمات تُصحّح العمل والأخذ به.
فالمشاهدة تحتاج إلى تكرار، والتجربة إلى استمرار، ليتسنّى للنظريّة المستفادة منهما التحوّل إلى قانون ثابت في ضوابطه ونتائجه، ومع كلّ ذلك فإنّ فلسفة العلم طبقاً لنظريّاتها الجديدة أثبتت عجز العلوم الطبيعيّة التجريبيّة عن الوصول بمعطياتها إلى مرتبة القانون ممّا جعل أصل الإشكاليّة أكثر تعقيداً. |