صفحة 11 كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بُعداً» (1) والبصيرة في المقام هي المنهج.ولا يخفى أنّ تحديد المنهج المتّبع بحثيّاً في رتبة سابقة، لا يقلّ أهمّية عن نفس المنهج؛ فإنّ الوقوع في فوضى الأدلّة بسوقها كيفما اتّفق، سوف يُفسد العمليّة الاستدلاليّة حتّى مع كون الأدلّة متقنة بحدّ ذاتها. إنّ الوقوف على موقع المنهج في العمليّة الاستدلاليّة عموماً، وفي العمليّة التفسيريّة خصوصاً، يكشف النقاب لنا عن الفوضى البحثيّة التي وقع فيها عددٌ كبير من أعلام المسلمين في مصنّفاتهم المختلفة وفي مختلف المجالات. وإذا جاز لنا تقسيم العُرف إلى عامّي وآخر خاصّي، فإنّ نسبة كبيرة من مصنّفات علماء المسلمين قد سلك فيها أصحابها العرف الخاصّي في عرْض أفكارهم وأخذ النتائج عنها، وهذا السير المعرفي غير الممنهج لا يُعفيهم من مسؤوليّة إعادة النظر في ما كتبوه، فإنّ العُرف الخاصّي لا يُصحّح العمل به، لعدم ارتكازه على ضوابط صحيحة، ولذا نجد في أبحاث علم أصول الفقه ـ مثلاً ـ مجموعة غير قليلة من المسائل الفلسفيّة والكلاميّة والمنطقيّة والرجاليّة واللغويّة، وهذا الاضطراب المنهجي نتج عنه مشكلات معرفيّة ليست قليلة، كما وقفنا على ذلك في مباحث علم الأصول. ولا ريب أنّ هذه الفوضى المعرفيّة والانسياق وراء عُرف غير منهجيّ، لم تخلُ منه العمليّة التفسيريّة في جميع مراحلها التاريخيّة، سواء كان ذلك في مرحلة التأسيس النظري لها أو في مرحلة رصد وضبط مسائلها أو في مراحلها المتأخّرة التي أبرزت لنا عيّنات محدودة جدّاً، حاولت جادّة أن تُمنهج أبحاثها ــــــــــ (1) الأصول من الكافي، لثقة الإسلام أبي جعفر بن يعقوب الكليني، تحقيق: علي أكبر الغفاري، نشر دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة السادسة: كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 1، ج1 ص43. صفحة 12 وتسلك طريقة مُثلى في تقصّي الحقائق القرآنيّة، ولعلّها قد نجحت بنسب مختلفة، ولذا فهي وإن كانت محاولات ناجحة وجادّة إلاّ أنّها لا زالت فتيّة في عالم التأسيس النظري للعمليّة التفسيريّة.ولعلّنا سوف نقف بشيء من التفصيل في تنضيج هذا الهدف المعرفي ـ الذي حاولنا الإشارة له وهو ضرورة المنهج وأهمّيته ـ في أبحاثنا اللاحقة؛ لما يترتّب عليه من نتائج معرفيّة هي غاية في الأهمّية، أهمّها الوصول إلى مقاصد العلم المبحوث فيه بصورة سليمة ووجيزة . إنّ جميع الإسقاطات الفرديّة والاجتماعيّة والعقديّة والظروف الآنية المحيطة بكلّ عصر، تُسهم في تكوين الاتّجاه الذي يسوق المُفسِّر إلى توجيه النصّ نحو نتائج قبلية أملتها الالتزامات السابقة. فالاتّجاه يتخلّف موضوعيّاً عن المنهج في التعاطي المعرفي مع النصّ القرآني. ففي الوقت الذي يؤدّي فيه المنهج دوراً إيجابيّاً في السير مع النصّ القرآني لاستجلاء معانيه، يقوم الاتّجاه بدور مغاير ومختلف تماماً حيث يقوم صاحب الاتّجاه بالسير مع مرتكزاته واعتقاداته القبلية في تطويع النصّ القرآني باتّجاه نتائج حدّدتها قبلياته، وهو ما يعني أنّ الحصيلة التفسيريّة التي يخرج بها صاحب الاتّجاه في مساحة واسعة منها تمثِّل انعكاساً فعليّاً لمتبنّياته القبلية. جديرٌ بالذِّكر أنّنا إذا ما استقرأنا الكتب التفسيريّة وقرأناها بدقّة وتمحيص فإنّ القليل منها يخرج عن دائرة الاتّجاهات وبنسب مختلفة، فتجد بعضهاً منها مكرّسة لخدمة أهداف وأغراض عقدية وأخرى فكريّة، بل تجد في بعضها أهدافاً وأغراضاً أخرى سياسيّة أو عصبيّة ـ قبليّة. وعلى أيّ حال فإنّ تجريد النفس عن المتبنّيات العقديّة والاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة في رتبة سابقة على العمليّة أمرٌ صعب وشاقّ جدّاً، إن لم صفحة 13 يكن عسيراً، لاسيّما مع حصول حالة انغلاق معرفيّ على المتبنّيات الفرديّة وعدم تقبّل القراءات المقابلة جملةً وتفصيلاً.إنّ خطورة الاتّجاهات تكمن في كونها تحاول عابثة تقديم رؤية كونيّة إلهيّة مدّعية أنّ عمادها النصوص الشرعيّة، فتُوقع طبقة من الأمّة في الهلكة والضلال. من هنا يتعيّن على القارئ عموماً والمتتبّع خصوصاً، الالتفات إلى المصادر المعرفيّة في العلوم الإسلاميّة عموماً وفي المصادر التفسيريّة خصوصاً، وينبغي الالتفات إلى خطورة الموقف والتعاطي معه وفق ما تقتضيه المسؤوليّة الشرعيّة والمعرفيّة تجاه الأمّة. ولعلّ من مخاطر الاتّجاهات أنّها تأخذ بأصحابها قسراً نحو التفسير بالرأي الذي تضافرت الروايات الصحيحة على ذمّه وتحريمه. ومن المخاطر الأُخرى التي لا تقلّ خطورة عمّا تقدّم: أنّ هذه المجاميع التفسيريّة الداخلة في دائرة الاتّجاهات، عادةً ما تشكّل ثقلاً كبيراً ومساحة واسعة في تكوين الشهرة بل والإجماع أيضاً ممّا يُوحي للخاصّة فضلاً عن العامّة شرعيّة مدّعياتهم وصحّة متبنّياتهم، وبذلك تُوفّر الدواعي للالتزام بها من قبل المتأخّرين عنهم. وقد جرت محاولات عديدة لإضفاء صبغة علميّة معرفيّة للاتّجاهات التفسيريّة من خلال إبرازها بعناوين مختلفة من قبيل المذاهب والمدارس، وما شابه ذلك. وعلى أيّ حال، فإنّ كلّ حركة تفسيريّة لم تنطلق في ضوء منهج معتبر فإنّها سوف تُمثِّل اتّجاهاً معيّناً تشكّل مردوداته السلبيّة الثقل الأكبر في ردم البناء المعرفي في العمليّة التفسيريّة، وهذا ما يؤكّد لنا ما أفدناه من ضرورة الالتزام بمنهج تفسيريّ يُرشّد العمليّة التفسيريّة ويجعلها مثمرة مُنتجة. صفحة 14 من العوامل الأساسيّة التي أدّت إلى إعاقة حركة التفسير عند علماء المسلمين، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مانع يصدّ عن التعاطي مع كتاب الله وعقبة تردع المفسِّرين من ارتياد معانيه والغوص في أعماقه، النصوصُ المستفيضة الواردة من الفريقين عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام التي تحدّثت عن ظاهرة تفسير القرآن بالرأي.- عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب» (1). - عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» (2). - عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «مَنْ فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ خرَّ أبعد من السماء» (3). - روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «مَنْ تكلّم في القرآن برأيه ــــــــــ (1) تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تأليف: الفقيه المحدّث الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، المتوفّى 1104هـ، تحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1412هـ : كتاب القضاء، الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37، ج27 ص190. (2) تفسير الطبري، المسمّى جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، المتوفّى سنة 310هـ، مركز الكتاب العلمي، القاهرة، منشورات دار الكتب العلميّة، بيروت ـ لبنان 1418 هـ: ج1 ص58 . (3) وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): الباب 13 من أبواب صفات القاضي، الحديث 66، ج27 ص202. صفحة 15 فأصاب فقد أخطأ» (1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (2).من هنا حاول جملة من الأعلام أن يُجيبوا عن هذه النصوص من خلال عدد من التكييفات والأجوبة التي ذكروها في فهم المقولة. وقد توفّرنا على كثير منها في كتابنا «أصول التفسير والتأويل» (3). وخلاصة ما انتهينا إليه هناك: أنّ المراد من مقولة التفسير بالرأي، هو أحد أمرين، على سبيل مانعة الخلو لا مانعة الجمع، هما: الأوّل: إنّ المراد من التفسير بالرأي المنهيّ عنه، أمرٌ راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف، بمعنى أنّ التفسير بالرأي مقولة في المنهج وفي طبيعة الطريق الذي يُسلك في تفسير القرآن، فإذا ما سلك المفسّر الطريق الخاطئ وقع في محذور التفسير بالرأي، وترتّب على ذلك منطقيّاً وطبيعيّاً خطأ النتائج وإن كان يمكن أن يُصيب الواقع أحياناً. بعبارة أخرى: إنّما نهى صلّى الله عليه وآله عن تفهّم كلام الله تعالى واقتناص المراد منه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره، وإن كان هذا النحو من التفهّم والطريق ربما صادف الواقع، وذلك بأن يقيس كلامه تعالى بكلام الناس، فإنّ قطعة من الكلام من أيّ متكلِّم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نُعمل فيه القواعد المتّبعة في كشف المراد منه، ونحكم بذلك أنّه أراد كذا، كما هو الحال في جميع المحاورات ـ عموماًـ في المجتمعات العقلائيّة، لأنّ بياننا مبنيّ على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقةً أو مجازاً. ــــــــــ (1) الإتقان في علم القرآن، الإمام السيوطي، المتوفّى سنة 911هـ، دار الفكر، لبنان، الطبعة الأُولى، 1416هـ: ج2 ص445. (2) رواه الترمذي في السنن (2950 ـ 2951) والنسائي في الكبرى (8084 ـ 8085) والطبري في التفسير: ج1 ص59، والطبراني في المعجم الكبير (12392). (3) أصول التفسير والتأويل، السيّد كمال الحيدري، دار فراقد للطباعة والنشر: ص211 ـ 238. صفحة 16 والبيان القرآني ـ الذي هو كلام الله سبحانه ـ غير جارٍ على هذه الطريقة، بل هو كلامٌ موصول بعضه ببعض في عين أنّه مفصول، ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعضه ـ كما سيأتي توضيحه في المنهج المختار في تفسير القرآن ـ فلا يكفي ما يتحصّل من آية واحدة بإعمال القواعد المقرّرة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المُراد منها، دون أن نقف على جميع الآيات المناسبة لها ونجتهد في التدبّر فيها كما يستفاد من قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82).والدليل على أنّ المراد من هذه النصوص هو هذا، قوله صلّى الله عليه وآله: «مَن تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» فإنّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق والنهج، وكذا قوله عليه السلام: «إن أصاب لم يُؤجر». الثاني: أن يكون للمفسّر اتّجاه ومذهب معيّن، فيتأوّل القرآن على رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمّل ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف. فلو أمكن لهذا المفسِّر تجريد نظره التفسيري عن مذهبه واقتصر نظره على النصّ وحده لما انتهى إلى ما انتهى إليه، وقد يسوق المفسِّر برأيه دليلاً لإثبات مدّعاه، وقد يكون الدليل صحيحاً في أصله، إلاّ أنّه غير منطبق على مُدّعاه، وإنّما سيق في المقام لتصحيح ما طابق مذهبه. فلم يكن النصّ مقصوداً له ولا أصل الدليل المُساق في المقام، وإنّما ما انطلق منه ابتداءً واصطحبه معه بُغية إثباته بنصوص القرآن. ولا ينبغي توهّم بطلان سوق المفسِّر لمعتقداته وقبلياته معه عند قراءة النصّ القرآني، فالتنصّل عن أصل السوق أمرٌ عسير جدّاً، وإنّما الباطل وغير الصحيح هو تحكيم تلك المعتقدات والقبليات في مورد تفسير النصّ. وهذا هو ما اصطلحنا عليه بالاتّجاه فيما سبق. ولعلّ هذا ما نشاهده في عدد كبير من التفاسير التي صنّفت: صفحة 17 - إمّا على أساس منهج كلاميّ معيّن، فإنّهم حاولوا تفسير الآيات بما يوافق مذاهبهم واتّجاهاتهم الكلاميّة، بأخذ ما وافق، وتأويل ما خالف، على حسب ما يجوّزه ويرتضيه المذهب.- أو على أساس منهج فلسفيّ معيّن، فإنّه عَرَض لهم ما عَرَض للمتكلِّمين من الوقوع في مزالق تأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلّمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعمّ ـ أي الرياضيّات والطبيعيّات والإلهيّات بقسميها والحكمة العمليّة ـ وخاصّة المدرسة المشائيّة، فقد تأوّلوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض، وآيات البرزخ والمعاد، حتّى أنّهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيّات والأصول الموضوعة التي نجدها في العلوم الطبيعيّة؛ من نظام الأفلاك وترتيب العناصر والأحكام الفلكيّة والعنصريّة، إلى غير ذلك، مع أنّهم صرّحوا على أنّ هذه النظريّات مبتنية على أصول موضوعة وفرضيّات لم يقم عليها أيّ برهان أو دليل يثبتها أو يؤيّدها. - أو ما نجده في التفاسير القائمة على منهج المتصوّفة، فإنّهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلْقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسيّة دون عالم الظاهر وآياته الآفاقيّة، اقتصروا في بحثهم على التأويل ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل وتلفيق جمل شعريّة، والاستدلال من كلّ شيء على كلّ شيء، حتّى آلَ الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجُمل وردّ الكلمات إلى الحروف النورانيّة والظلمانيّة، إلى غير ذلك . ومن الواضح أنّ القرآن لم ينزل هدىً للمتصوّفة خاصّة، ولا أنّ المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوفاق والحروف، ولا أنّ معارفه مبنيّة على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل علم النجوم من اليونانيّة وغيرها إلى العربيّة. |
|
-
إرسال بالبريد الإلكتروني كتابة مدونة حول هذه المشاركة المشاركة على X المشاركة في Facebook |