Rss Feed

  1. البحث الأول: الصراط المستقيم لغة وقراءة
    - ذكر الراغب أنّ الصراط «هو الطريق المستسهل» (1)، وذكر آخرون أنّه الطريق الواضح، ويُقال هو الطريق المحدود بجانبين الذي لا يخرج عنه، ويُقال: فيه معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعة العبور عليه، ويُقال: أصله من سرطت الشيء أسرطه سرطاً إذا ابتلعته، واسترطته ابتلعته، فإنّ المبتلَع يجري بسرعة في مجرىً محدود.
    على هذا فالصراط هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلوبه بسرعة، وقد يُطلق ويُراد به الطريق غير الحسّي فيُقال: الاحتياط طريق النجاة، وإطاعة الله طريق الجنّة، وهذا مبنيّ على ما تقدّم بحثه في أصول التفسير، من أنّ المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا الجمود على مصداق مادّي مألوف للّفظ.
    بهذا يتّضح أنّ الصراط والسبيل والطريق قريب المعنى، وإن كانت مختلفة من حيث منشأ الاشتقاق، ولا يعني أنّها متطابقة، بل تختلف في بعض الخصوصيّات كما أشار إليه الراغب حيث قال: «الطريق: السبيل الذي يطرق بالأرجل أي يضرب، وعنه استعير كلّ مسلك يسلكه الإنسان في فعل محموداً
    ــــــــــ
    (1) المفردات، مصدر سابق: مادّة «سرط»، ص230.

    صفحة 362
    كان أو مذموماً» (1). «والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة» (2) والمسلك الصعب لا يسمّى سبيلاً وإن كان يسمّى طريقاً.
    والصراط أصله بالسين من السرط كما أسلفنا، وقد قرئ بها وإن كان الجمهور على قراءتها بالصاد، وهي لغة قريش نطقوه بالصاد مبدّلة عن السين بقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثمّ إلى الطاء. وإنما يفعلون ذلك في كلّ سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء، وإنّما قلبوها هنا صاداً لتُطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخيم مع الرّاء، استثقالاً للانتقال من سفل إلى علوّ.
    - أمّا المستقيم، قد يُطلق ويُراد به ـ على ما في العلوم الرياضيّة ـ أقرب الخطوط الموصلة بين نقطتين. وقد يُطلق ويُراد به ما يؤدّي إلى المقصود والغاية، سواء كان أقرب الطرق أم لا، ويقابله المعوجّ، وليس المراد به ذا التعاريج، بل كلّ ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها. وإنّما قلنا ذلك لأنّ كلّ من يميل وينحرف عن الجادّة يكون أضلّ عن الغاية ممّن يسير عليها في خطّ ذي تعاريج، لأنّ هذا الأخير قد يصل إلى الغاية لكن بعد عناء ومشقّة، لكن الأوّل لا يصل إليها أبداً، بل يزداد عنها بُعداً كلّما أوغل في السير وانهمك فيه. قال الإمام الصادق عليه السلام: «العامل على غير بصيرة، كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة المشي إلاّ بُعداً» (3).
    والمراد من المستقيم هنا هو الذي لا يتغيّر أمره ولا يختلف شأنه، فمستقيم الصراط ما لا يتخلّف في هدايته وإيصال سالكيه إلى غايتهم ومقصدهم. قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ
    ــــــــــ
    (1) المصدر نفسه: مادّة «طرق»، ص303.
    (2) المصدر نفسه: مادّة «سبل»، ص223.
    (3) الأصول من الكافي: كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، ج1 ص43، الحديث 1.


    صفحة 363
    وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء: 175)، وقال: (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ) (الحجر: 41 ـ 42)؛ أي هذه سنّتي وطريقتي، فهو يجري مجرى قوله: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 62). وهذا معنى ما أشار إليه الراغب في قوله: «إنّ الصراط أصله من السراط، وأصله من سرطتُ الطعام وزردته ابتلعته، فقيل سراط، تصوّراً أنّه يبتلعه سالكه، أو يبتلع سالكه» (1) فيكون المراد من الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي يبلع السالكين فيه فلا يدعهم ولا يدفعهم عن بطنه.
    من هنا لابدّ من الوقوف على حقيقة الصراط في القرآن، وما هي نعوته وأوصافه، ومن هم أهله ومصاديقه. هذه الأسئلة وغيرها نحاول الوقوف عليها من خلال البحوث التالية.

فهرس الكتاب