Rss Feed

  1. الثامنة: الولاية أعظم نِعَم الله التي تسحقّ الحمد
    عرفت أنّ الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه مُنعماً متفضّلاً، ونِعم الله تعالى على الإنسان كثيرة لا يمكن إحصاؤها كما قال عزّ وجلّ: (تَعُدُّوا نِعْمَت اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34)، وأعظم نعمه سبحانه على الإنسان هي نعمة الولاية؛ عن أبي يوسف البزّاز قال: «تلا الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام هذه الآية (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ) (الأعراف: 69) قال: أتدري ما آلاء الله؟ قلت: لا. قال: هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا» (1).
    وعن زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام «قال: بُني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية. قال زرارة: فقلت: وأيّ شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضلهنّ لأنّها مفتاحهنّ، والوالي هو الدليل عليهن» (2).
    وكذلك عن أبي حمزة الثمالي قال: «قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: بُني الإسلام على خمس: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم شهر رمضان، والولاية لنا أهل البيت. فجعل في أربع منها رخصة ولم يجعل في الولاية رخصة. من لم يكن له مال لم تكن عليه زكاة، ومن لم يكن له مال
    ــــــــــ
    (1) الأصول من الكافي، مصدر سابق: كتاب الحجّة، باب أنّ النعمة التي ذكرها الله في كتابه الأئمّة عليهم السلام، الحديث 3، ج1 ص217.
    (2) وسائل الشيعة، مصدر سابق: أبواب مقدّمة العبادات، باب وجوب العبادات الخمس، الحديث 2، ج1 ص13.

    صفحة 282
    فليس عليه حجّ، ومن كان مريضاً صلّى قاعداً، وأفطر شهر رمضان، والولاية صحيحاً كان أو مريضاً أو ذا مال أو لا مال له فهي لازمة» (1).
    وهي النعمة في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3)، لذا قال الإمام الباقر عليه السلام: «آخر فريضة أنزلها الله تعالى الولاية، ثمّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمّ أنزل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بكراع الغميم فأقامها رسول الله صلّى الله عليه وآله بالجُحفة، فلم ينزل بعدها فريضة» (2).
    وفي أمالي الشيخ بإسناده عن محمّد بن جعفر بن محمّد عن أبيه عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام عن عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: بناء الإسلام على خمس خصال: على الشهادتين والقرينتين. قيل له: أمّا الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟ قال: الصلاة والزكاة، فإنّه لا يقبل إحداهما إلاّ بالأخرى، والصيام وحجّ بيت الله من استطاع إليه سبيلاً، وختم ذلك بالولاية فأنزل الله عزّ وجلّ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً) (3).
    من هنا جاء في دعاء يوم الغدير: «الحمد لله الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين عليه السلام. الحمد لله الذي أكرمنا بهذا اليوم وجعلنا من الموقنين بعهده إلينا وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية ولاة أمره والقوّام بقسطه. الحمد لله الذي جعل كمال دينه وتمام نعمته بولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام» (4).
    ــــــــــ
    (1) وسائل الشيعة، مصدر سابق: الحديث: 24، ج1 ص23.
    (2) البرهان في تفسير القرآن، البحراني، مصدر سابق: الحديث 1، ج2 ص372.
    (3) وسائل الشيعة، مصدر سابق: الحديث 33، ج1 ص27.
    (4) مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمّي، أعمال يوم الغدير.

    صفحة 311
    الآيات التي تجعل العبادة دائرة مدار الربوبيّة.
    وبهذا يتّضح السبب في أنّ القرآن يعدّ الناس عبيداً، والله تعالى مولاهم الحقّ، بل تعدّى ذلك وأخذ كلّ من في السماوات والأرض موسوماً بسمة العبوديّة؛ قال تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً) (مريم: 93).
    ولا ريب أنّ اعتبار العبوديّة لله سبحانه أمرٌ مأخوذ بالتحليل (وهو تحليل معنى العبوديّة إلى أجزائها الأصليّة) ثمّ الحكم بثبوت حقيقتها ـ بعد طرح خصوصيّاتها الزائدة الطارئة على أصل المعنى ـ في أُولي العقل من الخليقة، فهناك أفراد من الناس يسمّى الواحد منهم عبداً، ولا يسمّى به إلاّ لأنّ نفسه مملوكة لغيره مِلْكاً يسوغ لذلك الغير الذي هو مالكه ومولاه أن يتصرّف فيه كيف يشاء وبما أراد، ويسلب عن العبد استقلال الإرادة مطلقاً.
    والقائل في هذا المعنى يوجب الحكم بأنّ الإنسان ـ وإن شئت وسّعت وقلت: كلّ ذي شعور وإرادة ـ عبدٌ لله سبحانه بحقيقة معنى العبوديّة، فإنّ الله سبحانه مالك كلّ ما يسمّى شيئاً بحقيقة معنى الملك (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (النور: 42) فلا يملك شيء من نفسه ولا من غيره شيئاً من ضرٍّ ولا نفع ولا موت ولا حياة ولا نشور، ولا يستقلّ أمر في الوجود بذات ولا وصف ولا فعل، اللَّهُمَّ إلاّ ما ملّكه الله ذلك تمليكاً لا يبطل بذلك ملكه تعالى، لا ينتقل به الملك عنه إلى غيره، بل هو المالك لما ملّكهم، والقادر ما عليه أقدرهم، وهو على كلّ شيء قدير، وبكلّ شيء محيط.
    وهذه السلطنة الحقيقيّة والملك الواقعي هي المنشأ لوجوب انقيادهم لما يريده منهم بإرادته التشريعيّة، وما يشرّع لهم من شرائع الدِّين وقوانين الشريعة بما يصلح به أمرهم وتحاز به سعادتهم في الدارين.
    والحاصل: أنّه تعالى هو المالك لهم ملكاً تكوينيّاً، يكونون به عبيده

    صفحة 312
    الداخرين لقضائه، سواء عرفوه أم جهلوه، أطاعوه في تكاليفه أم عصوه، وهو المالك لهم ملكاً تشريعيّاً يوجب له عليهم السمع والطاعة.
    التعريف الثاني: العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ من الاعتقاد بألوهيّة المخضوع له. وتوضيح ذلك يستلزم بيان أمرين:
    الأوّل: إنّ الذين نزل القرآن في أوساطهم وكذلك كلّ الوثنيّين وعَبدة الشمس والكواكب كانوا يعتقدون بألوهيّة معبوداتهم ويتّخذونهم آلهة صغيرة وفوقهم الإله الكبير الذي يسمّى «الله» سبحانه، والآيات التي تحدّثت عن ذلك كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (الفرقان: 68) وقوله: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً) (مريم: 81) وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى) (الأنعام: 19) وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً) (الأنعام: 74).
    فهذه الآيات ـ وكثيرٌ غيرها ـ تشهد على أنّ دعوة المشركين كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهيّة معبوداتهم، وقد فُسّر الشرك في بعض الآيات باتّخاذ الإله مع الله، كما في قوله: (...وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 94 ـ 96)، وكذلك قوله: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الطور: 43) حيث جعلت الاعتقاد بألوهيّة غير الله هو الملاك للشرك، والمراد هنا الشرك في العبادة.
    فهذه النصوص واضحة الدلالة على أنّ شرك هؤلاء إنّما كان لأجل اعتقادهم بألوهيّة معبوداتهم، ولأجل هذا كانوا يعبدونهم ويقدّمون لهم النذور والقرابين وغيرها من التقاليد والسُّنن العباديّة.
    ولمّا كانت كلمة التوحيد تهدم عقيدتهم بألوهيّة غيره سبحانه، كانوا يستكبرون عند سماعها كما قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (الصافّات: 35) وهذا ما يفسّر لنا أيضاً أنّهم كانوا إذا دُعي الله

    صفحة 313
    وحده كفروا به، لأنّهم لا يقبلون حصر الألوهيّة به سبحانه، وإذا أشرك به آمنوا لانسجامه مع ما يعتقدون كما في قوله: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (غافر: 12).
    الأمر الثاني: إنّ العبادة ما لم تنشأ من الاعتقاد بألوهيّة المعبود، فلا يكون الخضوع أو التعظيم والتكريم عبادة، وهذا ما دلّت عليه الآيات التي أمرت بعبادة الله ونهت عن عبادة غيره معلّلة ذلك بأنّه: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)، كقوله سبحانه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف: 59) وقد تكرّر هذا النداء القرآني في مواضع متعدّدة (1).
    ولازم ذلك أنّ الذي يستحقّ العبادة هو من كان إلهاً وليس هو إلاّ الله، وعندئذ فكيف تعبدون ما ليس بإله، وكيف تتركون عبادة الله وهو الإله الذي يجب أن يُعبد دون سواه.
    فهذه التعابير ـ التي هي من قبيل تعليق الحكم على الوصف ـ تفيد أنّ العبادة إنّما تكون كذلك إذا كان الخضوع والتذلّل نابعين من الاعتقاد بألوهيّة المعبود؛ إذ نلاحظ بجلاء كيف أنّ القرآن استنكر عبادة المشركين غير الله، بأنّ هذه المعبودات ليست بآلهة، وأنّ العبادة من شؤون الألوهيّة. فإذا تحقّق وصف الألوهيّة في موجود جازت عبادته واتّخاذه معبوداً، وحيث إنّ هذا الوصف لا يستحقّه إلاّ الله سبحانه وجبت عبادته دون سواه.
    ولعلّ القرآن لم يستعمل لفظ العبادة وما يشتقّ منه كـ «عبد، يعبُد» ـ على وجه الحقيقة ـ إلاّ في ما ذكرناه من معاملة الإنسان لمن يتّخذه إلهاً معاملة الإله المستحقّ لذلك بمقامه في الإلهيّة، وهذا ما تقدّم من ابن فارس حيث قال: «وأمّا عَبَد يعبُد عبادة، فلا يُقال إلاّ لمن يعبُد الله تعالى».
    ــــــــــ
    (1) الأعراف: 65، 73، 85 ، هود: 50، 61، 84.

    صفحة 314
    نعم، استعمل القرآن في موارد ثلاثة العبادة في غير ذلك، ولكنّها لم تخرج عن النظر إلى مناسبة المعنى الحقيقي المذكور والتجوّز بلفظه وهي:
    أوّلها: ما ورد في قوله تعالى: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً) (مريم: 44)، وقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) (يس: 60) فاستعير اسم العبادة للطاعة العمياء للشيطان على الدوام، كما يلقي المؤمنون قياد طاعتهم لله على بصيرة من أمرهم لأنّه إلههم.
    ثانيها: ما ورد في قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الفرقان: 43) وقوله: (َفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الجاثية: 23) فإنّ هؤلاء لم يتّخذوا هواهم إلهاً على سبيل الحقيقة بل على نحو التجوّز.
    ثالثها: ما ورد في قوله تعالى: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون: 47) أي دائبون على العمل في تسخيرنا، كما يدأب المؤمن في طاعة الله وعبادته أو باعتبار أنّ فرعون كان يدّعي الإلهيّة فجعلوا بالتشبيه والتمويه خضوع بني إسرائيل بالقهر والغلبة عبادة لفرعون.

فهرس الكتاب